جدوى العودة إلى اتفاق فيينا

علي نون
علي نون

قد تكون موجبات عودة الأميركيين والإيرانيين إلى الاتفاق في فيينا أهم، أو بالأحرى أجدى للطرفين بداية ولعموم المنطقة العربية والإسلامية استطرادًا. وقد تكون تلك العودة، إذا تمت، فاصلة استراحة في حرب باردة تدور بالتقسيط بين واشنطن والغرب معها من جهة وإيران من جهة ثانية.

في مقابل تعليق العمل من قبل إدارة دونالد ترامب بالاتفاق النووي السيئ، تجري الآن في فيينا عملية دقيقة لتعليق العمل بسياسة الخنق والمواجهة غير العسكرية، ومحاولة الانتقال إلى عنوان آخر يدل على “رغبة” الطرفين في البقاء حيث هما: واشنطن تعرف أنها لن تعود إلى طهران مع نظامها الحالي، وطهران من جهتها تعرف أنها لن تستطيع، للسبب نفسه، إعادة العلاقات مع الأميركيين إلى سوية شبه طبيعية.

الطرفان محكومان بلحظة الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه في قيادتها، ويعرفان حكماً أن ذلك يعني استحالة الذهاب إلى مكان آخر… مثلما أن الطرفين لا يستطيعان تخطي حقيقة كون إسرائيل بينهما… وحقيقة استحالة الوقوف في نقطة وسطية إزاءها، حتى لو كانت واشنطن أقدر من طهران على الوصول إلى تلك النقطة، وحتى لو كانت الرغبة موجودة في العقل الباطني الإيراني لاستعادة شيء من العلاقات السابقة مع الأميركيين.

أي بمعنى آخر، كأن الذي يجري في فيينا راهناً هو تثبيت لستاتيكو، وإعادة العمل بوتيرة النزاع التي بقيت سارية منذ الأيام الأولى للثورة الإيرانية ووفق معادلة لم تخرق مرة واحدة: لا مواجهة عسكرية شاملة ومباشرة! بل تبادل لكمات بالمعنى الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي والمالي من جهة واشنطن، وإرهابي تحت ستار المقاومات من جهة طهران… وذلك تُرجم أخذاً لرهائن، وتفجيراً لسفارات، واستهدافاً لجنود ومواقع عسكرية في لبنان والعراق وأفغانستان والسعودية، وغير ذلك من أدوات وطرق مستحدثة تبعاً لتطور آليات الحداثة وتقنياتها وتعقيداتها.

خرق ترامب ذلك السياق عندما تبنى عملية قتل قاسم سليماني في العراق، وأبدى استعداداً واضحاً للذهاب بعيداً في تصعيد وتيرة التصدي لسياسات إيران إقليمياً ودولياً، لكنه لم يحصل على “الفرصة” المناسبة تبعاً لتمنع طهران وإيثارها الركون إلى لعبة انتظار التغيير في واشنطن نفسها! عدا عن تثبيت العمل بنهجها المتبع منذ انتهاء الحرب مع العراق والقائم على ثلاثية: عدم الاصطدام بالأقوى، وعدم القتال داخل الحدود القومية، والقتال بواسطة الأتباع غير الإيرانيين.

الأرجح راهناً هو وصول مفاوضات فيينا إلى هدفها المتبادل والعودة إلى العمل بالاتفاق النووي ومستجداته التقنية… ثم الركون إلى شيء تسووي في ما يتعلق بأدوار وسياسات إيران الخارجية ومعها قصة الصواريخ الكورية المعدّلة إيرانياً… في مقابل رفع الجزء الأكبر من العقوبات. وذلك في كل حال سيعني ترطيباً للأزمات الحادة المندلعة على هامش المواجهة الأصلية ووفق نسق جرى اتباعه في العراق مع مجيء مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة برغم أنه جاء غصباً عن طهران وليس برضاها التام.

يستطيع الجانب الإيراني أن يناور في لحظة الضعف، وهو الآن “يعيش” تلك اللحظة نتيجة سنوات ترامب الأربع وسياساته العقابية الخانقة، ويستطيع حين يشاء تبرير استدارته تبعاً لمنطقه الديني وليس السياسي، لكنه لا يستطيع، ولا يريد، توسيع قطر الاستدارة التسووية وخصوصاً في الدول التي أحكم وجوده فيها بواسطة أتباعه، بل الواضح أنه سيرضى مضطراً بتكرار التجربة “الناجحة ” في العراق مع الكاظمي، في مواقع “القتال” الأخرى: في اليمن من خلال الدفع نحو تهدئة ممكنة خصوصاً في ضوء فشل أتباعه الحوثيين في التقدم أكثر، وفي لبنان من خلال إطلاق عملية تشكيل الحكومة من الأسر، وفي الخليج العربي من خلال الايحاء برغبته في الانفتاح على دوله، وفي سوريا من خلال متابعة تقليص وجود اتباعه في مناطق ومواقع يمكن أن “تزعج” الإسرائيليين جنوباً أو تؤثر على الأكراد شمالاً… عدا عن الالتزام بعدم العودة إلى الاستثمار في “داعش” وخدماته! أما غير ذلك فلا يدخل في باب الحصافة، توقع حصوله.

المفارقة أن نظام طهران أنهى منذ زمن احتمالات الثقة به بعد أن دلّت التجارب العربية السابقة معه على ذلك حرفياً… ينفتح في زاوية من زواياه ويخرب في زاوية أخرى، وتبريره المسرّب والذي َيفترض أنه يقنع الملطوعين منه (وهو في الواقع لم يعد يقنع أحداً) هو أن الحرس الثوري في مكان ووزارة الخارجية في مكان آخر، وأن الازدواجية السلطوية القائمة لا تسمح بتقديم سياسة رسمية واحدة، مع أن المرجع الأول والأخير في السلطة وترجماتها وتوجهاتها وسياساتها العامة الداخلية والخارجية هو المرشد نفسه! الموجود والحاضر بقوة وزخم أكيدين.

وبانتظار الوصول إلى ذلك الترف، أي إلى التعامل مع سياسة إيرانية واحدة وواضحة، ستبقى إيران مشكلة عربية وإسلامية ودولية، وستبقى مناخات التعامل معها محكومة بالأزمات وليس التسويات حتى لو أنتجت محاولة فيينا الراهنة هدنة معقولة.

وهذه الهدنة ستكون مثل وصفها تماماً، أي هدنة في حرب مستمرة بوجوه وأشكال متعددة، إلى أن يطرأ شيء آخر من داخل إيران بداية ونهاية… هدنة تريدها منظومة الولي الفقيه بالرغم من كل ظواهر المكابرة والمكاسرة، مثلما تحتاج إليها المنطقة وشعوبها لالتقاط أنفاسها وحصر خسائرها وبلاياها المتأتية من سياسات تلك المنظومة أولا وأساساً.

شارك المقال