لهندسة الثورة في طرابلس

يارا عرجة
يارا عرجة

واستيقظ أهل الكهف أخيراً… على ضوء الشمعة، لا بنزين، لا كهرباء ولا دواء. فقال قائل منهم: “كم لبثتم؟” قالوا: “لبثنا يوماً أو بعض يوم”. هبّوا من رقدتهم جُياعاً، فطلب أحدهم الطعام: “ابعثوا أحدكم بورقكم هذا إلى المدينة، فلينظر أيّها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه”. راحوا وبحوزتهم “كم ليرة”، أي ما تبقى من ودائعهم المصرفية المنهوبة، فلم يجدوا الطعام ولم يجنوا سوى بعض أرغفة الخبز التي تمكنت ليرتهم المنهارة من شرائها.

استيقظ أهل الكهف والشكر لله، فعادت التحرّكات إلى الشارع. بعضهم افترش الرينغ، فيما أغلق البعض الآخر الطرقات وأضرموا النيران في حاويات القمامة وأشعلوا الإطارات في كلّ المناطق اللبنانية. اقتحم المحتجون في صيدا شركتي الكهرباء والماء، وداهم الطرابلسيون السرايا ومصرف لبنان وبنك عودة وحاصروا بيوت السياسيين كما فعل أهالي بيروت الذين حاولوا اقتحام وزارة الطاقة. أجبر أهالي تكريت محطات الوقود على فتح أبوابها وصادر أهالي المنية وعكار صهاريح البنزين.

يأتي مشهد الغضب السريالي بالتزامن مع انتخابات نقابة المهندسين التي بدت كاستحقاق ديمقراطي هام لما تحمله من دلائل جديّة في ظلّ تردّي الأوضاع الاقتصادية والتأزّم السياسي. فتجلّى التغيير الذي يندّد به أهالي بيروت في صناديق الاقتراع، إذ هُزمت أحزاب السلطة في وجه لائحة “النقابة تنتفض” التي حققت فوزاً ساحقاً. بعكس طرابلس حيث بقيت مطالب التغيير جُثة هامدة مع اكتساح السلطة للنقابة.

هي نتائج فاجأت الجميع، أحبطت البعض فيما أرضت البعض الآخر: طرابلس التي تألّقت في ثورتها ضد المنظومة الحاكمة سارقة أنظار الإعلام المحلي والأجنبي، سقطت ضحية لعبة سياسية حيكت بعد وفاة المُرشّح المُهندس رياض غزالي الذي كان من المُفترض أن يترأس لائحة المُستقلين. سقطت ولم يُنقذها المستقلون بسبب عدم توفر البديل وانسحاب بعض الأسماء في لائحة الثورة. هكذا يُبرّر البعض هزيمة الثورة في الشارع الطرابلسي المُنقسم لمن وجّه أصابع الاتهام إلى المهندسين المستسلمين للأمر الواقع.

بات من الواضح أن توجّهات الرأي العام الطرابلسي اليوم لم تعد كما كانت، إذ أصبح مدركاً لأثر خياراته السياسية السابقة التي أدّت إلى تردّي الأوضاع الاجتماعية، وبالتالي إلى تشكيل معارضة شعبية تضمّ كلّ الأطياف الطرابلسية فاعتُبرت كنواة للثورة ومثالاً يُحتذى به في سائر المناطق اللبنانية. أطلقت طرابلس أجمل شعارات الثورة، أسقطت “مجازياً” تحالف القوى السياسية، ولكنّها لم تتمكّن من ترجمة خطاب التغيير عملياً أو ديموقراطياً لأسباب عديدة أبرزها:

  • انقسام المجتمع الطرابلسي بين مؤيّد ومعارض للسلطة، مع الإشارة للفئة التي تعتبر نفسها “منتفضة” ولكن ينتابها الحنين من وقت إلى آخر للزعيم. وتطالب هذه الشريحة الموالية للأحزاب بالتغيير وبتحسين الوضع المعيشي ولكن تحت شعار “كلّن يعني كلّن بس زعيمي مش واحد منهم”.
  • عدم الثقة بالآخر وقدراته أوّلاً، وبالنفس ثانياً، ما يفسر عدم تعيين بديل عن غزالي وانسحاب مرشحين لاعتقادهم أنّهم غير قادرين على التغيير. هذا مع العلم أنّه في طرابلس عدد كبير من المهندسين المتميّزين بالشفافية والاستقلالية والنزاهة والكفاءة.
  • غياب الرؤيا والتخطيط البعيد الأمد لفريق الثوار أو المستقلين في طرابلس بسبب انقسامهم وتشتت أهدافهم، إذ يتطلّب التحضير للانتخابات الكثير من الوقت وهذا ما لم يحصل في حالتهم، ولم يلجؤوا حتى لأيّ خطة بديلة، ما يعني احتمال خوضهم الانتخابات في اللحظة الأخيرة.

وبالتالي، تشير هزيمة المستقلّين في طرابلس إلى عدم نضج المجتمع المدني وجهوزيته لخوض أي معركة انتخابية، وافتقاره للجنة ترصّ صفوف الثوار وتوحّد رؤيتهم تحت مظلّة مصالح مشتركة، لأنّ السلوك السياسي للشارع الطرابلسي (سواء كان مستسلماً للواقع الذي يعيشه أو رافضاً له) يرتبط بالعديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية. فانقسام الشارع بين مؤيّد لأحزاب السلطة ومعارض لها، وحسمه لصالح الطرف الأوّل من واقع التجربة النقابية (مع التنويه بانتخابات نقابة المحامين 2019 التي أثمرت فوز العونيين وكرامي) يعود لتشابك مصالح الطرابلسيين وعمق تجذّر أحزاب السلطة في البنية الاجتماعية. ما ينذر بأنّ احتمال خرق لوائح السلطة في الانتخابات النيابية المقبلة (إن حصلت) من قبل الثورة ضئيل جداّ، مع التنويه بتوفر العديد من الأسماء الطرابلسية الكفوءة والمميّزة. لذلك يجب “هندسة” الثورة في طرابلس من جديد.

شارك المقال