أسماء وخيارات: هذا ما دار بين الراعي وماكرون!

عاصم عبد الرحمن

رسائلٌ ناريّة وعظاتٌ ملتهبة أطلق سهامها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي تجاه فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون على وجه التحديد حيال موقفه الرئاسي المناقض للأكثرية المارونية والتجاوز الواضح للبطريركية التي لم تعتد تغريداً فرنسياً خارج سربها يوماً. حالٌ مرتبك عجَّل لقاء الرجلين لمناقشة الموقف الماروني وأزمة الشغور الرئاسي والطروح الفرنسية ذات الصلة. فما الذي دار بينهما سياسياً ورئاسياً؟

لم تعد فرنسا “الأم الحنون” للموارنة الذين اعتادوا على احتضانها لهم منذ بزوغ فجر الكيان اللبناني وحتى الأمس القريب، فقد ترجمت وقوفها إلى جانبهم تاريخياً عبر محطات عديدة أبرزها أعوام الفتنة بين 1841 و1861، ثورة الفلاحين 1858، نشأة لبنان الكبير 1920، استقلال لبنان 1943، الحرب الأهلية 1975 وغيرها الكثير من المحطات المصيرية. إلا أنه بات للمصالح السياسية والاقتصادية كلامٌ آخر بدَّل من موازين الاحتضان والحنان الفرنسيين وهو ما ينعكس على أزمة الشغور الرئاسي التي دفعت بالراعي وماكرون إلى لقاء مباشر بهدف وضع النقاط الرئاسية على حروف المواقف السياسية.

في خضم الرسائل البطريركية التي تولت السفيرة الفرنسية آن غريو نقلها إلى الاليزيه، كانت هناك مواقف سياسية صارمة للقادة الموارنة تجاه الدور الفرنسي الذي صنّفوه في خانة الاصطفاف إلى جانب “حزب الله” بدأت ملامحه تتجلى منذ انعقاد مؤتمر “سان كلو” الذي قدم الطرح الايراني للمرة الأولى وهو تطبيق المثالثة في النظام السياسي اللبناني.

أما اليوم ومع إصرار الادارة الفرنسية على التسويق لأكثر من مبادرة محورها انتخاب رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية على الرغم من معارضة الأحزاب المسيحية الرئيسة لمرشح الثنائي الشيعي كما يعتبرونه، فقد بدأت الخلية الفرنسية المكلفة متابعة الأزمة اللبنانية الاجتماع بالقيادات المسيحية (المارونية) لاستكشاف مواقفها الرئاسية مع رشة ملح وأكثر ترويجية لخيار فرنجية.

رئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميل لبَّى الدعوة الفرنسية مفنّداً الضمانات التي كان تعهد بها فرنجية أمام الفرنسيين لنقلها إلى السعوديين مصوّباً عليها باعتبارها حبراً على ورق وما عهد ميشال عون حليف “حزب الله” إلا خير دليل.

رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع كان أكثر تشدداً في التعبير عن معارضته للسياسات الفرنسية المستجدة فرفض الدعوة متمسكاً بخيار رفض مرشح الثنائي الشيعي مهما تبدلت الموازين السياسية والمواقف العربية.

رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل عرَّج على العاصمة الفرنسية عارضاً وجهة نظره التي تمحورت حول رفض خيار سليمان فرنجية في رئاسة الجمهورية، مشدداً على أهمية شبه الاجماع المسيحي الرافض لفرض الخيارات الرئاسية.

وعليه، وأمام هذا الشحن السياسي والروحي المتراكم مع ما تملكه الرمزية الفرنسية من مكانة في وجدان المسيحيين كان لا بدَّ من لقاء بين رأسَيْ الدولة الفرنسية والبطريركية المارونية بصورة مباشرة لعرض وجهات النظر بين الطرفين.

في هذا السياق، علم “لبنان الكبير” من مصدر مطلع على لقاء الرئيس الفرنسي والبطريرك الماروني أنه كان هناك تشديد فرنسي على ضرورة الاسراع في إجراء الانتخابات الرئاسية لما فيه من مصلحة لبنانية، وأن فرنسا ليست مع خيار رئاسي محدد بقدر ما تسعى إلى إيجاد الحلول للأزمات المتعددة مع الاصرار على عدم وقوفها ضد الموارنة تحت أي ظرف. في المقابل شدد الراعي على ضرورة عدم تجاوز فرنسا للكنيسة المارونية في خياراتها السياسية مهما بلغت التحديات، ولفت نظر ماكرون إلى وجود 5 أسماء مطروحة لرئاسة الجمهورية حولها شبه إجماع بين القوى المسيحية ويمكن غربلتها إلى 3 أو أقل في مقابل فرنجية هم: جوزيف عون، جهاد أزعور، إبراهيم كنعان، نعمت افرام وزياد بارود، وفي الختام تمَّ التشديد من الطرفين على أهمية مراعاة المصلحة الوطنية.

وحول الترجمة العملية لمرحلة ما بعد اللقاء البطريركي – الفرنسي، يقول الباحث في الشؤون السياسية الدكتور إيليا إيليا لـ “لبنان الكبير”: “على الرغم من أهمية اللقاء لا أرى أن الوضع ذاهب باتجاه انتخاب رئيس للجمهورية في الوقت الحالي، لأن القوى السياسية التي صعَّدت من مواقفها تجاه هذا المرشح أو ذاك لا تزال غير قادرة على تغيير موقفها حالياً وهي تحتاج إلى بضعة أشهر من أجل ذلك”. ويضيف إيليا إن فرنسا مستعجلة على تحقيق إنجاز سياسي في لبنان بهدف استثماره داخلياً لسببين:

– الأول: على الصعيد الشخصي للرئيس إيمانويل ماكرون واستثماره في الانتخابات البرلمانيّة الفرنسية.

– الثاني: توسع النفوذ السياسي والاقتصادي لفرنسا من خلال الشركات النفطية والاستثمارات الموعودة في لبنان من مرافئ وسكك حديد وغيرها.

بطريركياً، يعتبر إيليا أن الراعي سيعمل في المرحلة المقبلة على إصلاح ذات البين بين أبناء الكنيسة محاولاً تقريب وجهات النظر حول الملف الرئاسي. ويختم بالقول: “إن تشرين لناظره قريب”.

بما أن السياسة هي فن الممكن والعمل السياسي ليس طوباوياً أو جمعيات خيرية بل هو تحقيق مصالح اقتصادية بما تيسر من خيارات سياسية، فإن لفرنسا مصالحها الكامنة وراء استعجالها انتخاب الرئيس اللبناني وإن كان سليمان فرنجية انطلاقاً من الواقعية اللبنانية المرتكزة على ميزان الواقع العربي والاقليمي المستجد. فهل يسير الموارنة بمرشحهم التقاطعي جهاد أزعور حتى النهاية لفرض واقع آخر؟

شارك المقال