كان معكم “ثنائي الإلغاء”

يارا عرجة
يارا عرجة

“أعزاءنا اللبنانيين، اقتربنا من الوصول إلى محطتنا الأخيرة. يُرجى إبقاء أحزمة المقاعد مربوطة وشدّها بإحكام حتى انطفاء إشارة ربط الأحزمة. ويُرجى التأكّد من اصطحابكم كلّ ما تبقى لديكم من دولارات ومجوهرات وأمتعة ومواد غذائية قُبيل مغادرة الطائرة. كما نتمنى لكم إقامة مُمتعة في الأرض السابعة في جهنّم، وتُسعدنا رؤيتكم قريباً على إحدى رحلاتنا المقبلة، نشكركم جداً على انتخابنا والتقاتل والاختلاف لأجلنا ودعمنا وتصديقنا، وتعيشوا وتاكلوا غيرها. كان معكم ميشال عون وسمير جعجع”.

كان معكم أيّها المُسافرون قائد الطائرة القوي، الرئيس ميشال عون الذي بشّركم في 24 من الشهر الجاري بالوصول للمراحل الأخيرة من جهنّم. والشريك والحليف والأخ سمير جعجع الذي يحتفل مع “الرفيق” بأهمّ إنجازات الجمهورية القوية: إنهيار لبنان. جعجع، ذلك الخصم الحبيب، الذي يُساند عون علناً ويمنع استقالته أو المسّ بمقام الرئاسة لعيون المسيحيين وحقوقهم، يضحك سرّاً في نفسه لسقوط خصمه التاريخي في الشارع اللبناني عموماً والمسيحي خصوصاً، مُعتقداً أنّه “بيّض” سجلّه أمام اللبنانيين وأنّه أصبح تالياً، الوجه المسيحي الأكثر نزاهة وعقلانية والأنسب لتولّي زمّام الأمور في المرحلة التاريخية المُقبلة.

كان معكم أيّها المساكين “ثُنائي الإلغاء” عون وجعجع، “النبيان” بعيون مناصريهما. الإلغاء وما أدراكم ما الإلغاء. هو ميزة العونيين الذين أرادوا التخلّص من شركائهم المسيحيين عام 1989، لأنّهم كانوا مؤيّدين لاتفاق الطائف الذي رفضه عون ببدلته العسكرية، فحاول طرد “القوات اللبنانية” من بيروت الشرقية، ما أدى إلى اقتحام جيش الردع السوري المناطق المسيحية للمرّة الأولى منذ بداية الحرب الأهلية. ولكن لم تنته حرب الإلغاء مع الحرب الأهلية، بل استمرّت وتأجّجت مع الوقت على الرغم من المساعي والمحاولات التي أجهضها خصوصاً ترشّح جعجع للانتخابات الرئاسية في 2014 ضد عون. فما كان لهذا الأخير سوى العودة لممارسة حرب الإلغاء عبر اتّباع سياسة التعطيل: “أنا” وأعوذ بالله من كلمة “أنا”، أو الفراغ “أنا” أو لا شيء، “أنا” أو الانهيار. فتنازل بعدها جعجع لصالح عون وأيّده للرئاسة عام 2016. عندها تحوّلت حرب الإلغاء وأخذت شكلاً مُختلفاً تمثّل في تأييد جعجع “شكلياً” لعون، ونقمته “الباطنية” عليه وعلى الزمن الذي لم يُنصفه كما أنصف خصمه. فأراد جعجع وأصرّ على ترؤس عون البلاد، ليس لأنّه غبيّ ولا لأنّه ضعيف، بل لأنّه ذكي، راودته رغبة إلغاء عون سياسياً وقد ألغاه ولكن على حساب لبنان واللبنانيين.

لا يقلّ غرور جعجع شأناً أو خطراً من غرور عون. فقد مارس كلّ منهما حرب الإلغاء على طريقته للوصول إلى مبتغاه. ففيما يستمتع عون بولايته الرئاسية التي كان يحلم بها منذ ثلاثين عاماً مع نوّابه ووزرائه ومناصريه في “لا لا لاند”، يحتفل جعجع بنشوة النصر ويحلمُ بالانتخابات المُبكرة وبالكتلة المسيحية الأكبر في المجلس. في رحلتهما إلى سُدّة الحكم، شنّ جعجع وعون سوياً حرب الإلغاء على لبنان حتى انهار كُليّاً. فعندما يبلغ سعر صرف الليرة اللبنانية 18 ألفاً، وعندما يُرفع الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات، عندما يُفقد الدواء وتُفقد المُستلزمات الطبيّة من المُستشفيات، وعندما ترتفع نسبة البطالة ويهاجر المُعلّمون والأطباء، وعندما تحجز البنوك ودائع اللبنانيين، عندما تزداد الطوابير وينتحر البعض بسبب تردّي الأوضاع المعيشية، عندما ينهمك فريق في عرقلة تشكيل الحكومة، وعندما تخترق إسرائيل يومياً الأجواء اللبنانية وتتسبب في تفجير المرفأ، فما الداعي لموقع رئاسة الجمهورية؟ ما الداعي إذاً للرئاسة إن أُلغي الوطن وأُلغي الشعب؟

نحن لا نُحمّل مسؤولية الانهيار لعون وجعجع فقط، لأنّ الانهيار حصل نتيجة اهتراء المنظومة السياسية التي تضمّ الفاسدين الأوليغارشيين. وهما بكلّ بساطة كأفرقائهما السياسيين مسؤولين عن الفساد والدمار ولا يختلفان عنهم إلاّ بدرجة السوء. إلاّ أن انتخاب عون كان الخطأ الأكبر الذي أدّى إلى تفاقم الانهيار وإنهاء لبنان من أجل أحلام وردية برعاية “حزب الله” رأس منظومة الفساد اللبنانية وعمودها الفقري. وبالتالي، يُعتبر كلّ من يدعو إلى إجراء بعض الإصلاحات أو إلى حصول انتخابات نيابية مُبكرة قبل نزع السلاح، داعماً لحزب الله وشريكاً في الجريمة إمّا عن سابق إصرار وتصميم أو عن غباء.

شارك المقال