أزمة الهوية الثقافية تحت الوصاية الإيرانية

يارا عرجة
يارا عرجة

لبنان على موعد أسبوعي مع الأزمات. اعتدنا المصائب كما اعتدنا النسيان. لا جديد في يومياتنا غير الذلّ والقهر والجوع والمرض. حتى الكلام لم يعُد ينفع ولا قطع الطرقات ولا المساعدات التي تأتي على هيئة مخدّر، فتلجم ولا تمنع، تتدارك ولا تدفع، تُجمّد ولا تُلغي. إنّه زمن الأزمات والانهيار، زمن الفوضى والطوابير: بينما نعاني من نقص حاد في المحروقات يعيق عمل الأفران ويهددّ شبكة الاتصالات والانترنت، وبينما نعاني من انقطاع الكهرباء وغلاء المواد الغذائية وانهيار سعر صرف الليرة، تُضاف اليوم إلى لائحة الأزمات المتراكمة، أزمة فقدان الأدوية، وهي في الحقيقة ليست مفقودة ولكن مُحتكرة. هي مُتوفرة في المُستودعات ولن يتمّ بيعها قبل رفع الدعم لداعي الربح. ما نعيشه اليوم هو خلاصة الفساد الذي عززته الوصاية السورية ومن بعدها الإيرانية، وصاية نظامين يعززان فساد أحزاب السلطة لقاء تأمين غطاء سياسي لسلاح “حزب الله” في لبنان والمنطقة.

لا تُعتبر الوصاية السورية أكثر خطراً من الوصاية الإيرانية على لبنان، على الرغم من فتكها باللبنانيين ونهب أرزاقهم واستيلائها على بيوتهم واختطافهم وتعذيبهم في السجون السورية وتدخلها في “الشاردة والواردة” أمنياً وسياسياً. هذا لأنّها دائماً كانت تتعاطى مع لبنان على أساس مقولة حافظ الأسد “شعب واحد في بلدين”، بعكس الوصاية الإيرانية التي ترفض الكيان اللبناني وتسعى لإلغاء الدولة اللبنانية. فبالنسبة لإيران، لبنان ليس سوى إقليم أو مشروع انتداب على ساحل المتوسط يحكمه “حزب الله” بقوّة السلاح غير الشرعي تحت شعار “محاربة إسرائيل وتحرير القدس”.

يتعرّض لبنان اليوم لأشدّ حروب الإلغاء إقليمياً وداخلياً، مع استيلاء حزب الله على الحكم عبر تشكيل حكومة حسّان دياب التي تضمّ حلافاءه والتي وإن سقطت في الشارع، لا يسمح بتشكيل بديل عنها كي لا تقوم بانتشال جثّة الدولة المنهارة ومحاولة إنعاشها ولو للمرّة الأخيرة من جديد. الإصلاحات ممنوعة في إقليم لبنان الإيراني، والخوف كلّ الخوف من وحدة اللبنانيين، لذا يمارس “حزب الله” لعبة التقسيم وشدّ العصب الطائفي والتهويل من الحرب الأهلية للحفاظ على مكاسبه. الهدف المنشود؟ تغيير النظام اللبناني لتتمكّن إيران من التحكّم بمصير لبنان الذي جعلت منه أداة للمساومة والضغط على طاولة الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الأميركية. وانهيار النظام السياسي يقترن بالانهيار الاقتصادي، يليه الانهيار الاجتماعي، إذ تشير آخر إحصاءات اليونيسف أن 30% من أطفال لبنان ينامون جياعاً، وأنّ واحداً من كلّ عشرة أطفال أُرسل إلى العمل، كما تقول إن 77% من الأسر لا تمتلك ما يكفيها من الغذاء أو لا يتوفر لديها المال لشرائه. فضلاً عن انهيار القطاع الصحي وهجرة الأطباء والممرضين، ما يعني النقص بالاختصاصيين، وهجرة الأساتذة والأطباء ومستقبل القطاع التعليمي المجهول الذي لن يتمكّن من الصمود طويلاً في ظلّ أزمة الكهرباء والمحروقات، ما يعني الانترنت لاحقاً أي تهديد التعليم عن بعد، وأزمة الأقساط المدرسية والجامعية ورواتب الموظفين. أضف إلى ذلك، أزمة الرغيف التي ستلوح قريباً بالأفق وارتفاع أسعار السلع الغذائية واتساع الهوّة الاجتماعية. والانهيار الاجتماعي سيؤدي حتماً إلى الانهيار الإداري، أي توقف المؤسسات الرسمية والخاصة عن العمل، بما فيها المرافق الأساسية كمؤسسة كهرباء لبنان مثلاً التي توقفت عن تغذية المناطق اللبنانية بالتيار الكهربائي. حتى ديبلوماسياً، حُدّدت العلاقات الخارجية للبنان ضمن الإطار الذي تفرضه مصالح إيران سياسياً، علاقات هشّة تتمثّل بوزراء لا تتلفظ إلاّ بما يخدم مصالح الجمهورية الإسلامية.

إقرأ أيضاً: العراق: تيار جديد يحارب نفوذ ايران والاسلام الحاكم

عجز ما بعده عجز، يعزّز نفوذ الدويلة ويُلغي لبنان الدولة سياسياً، واقتصادياً وإدارياً، وغداً جغرافياً، إذ تسعى إيران للتوسّع بالمنطقة لإحياء الامبراطورية الفارسية التاريخية. ومع ضمّه لولايات سوريا والعراق واليمن، تُلغي إيران هوية لبنان الثقافية، لأنّ الثقافة تتغيّر مع تغيّر المجتمعات وتتبدّل وتتفاعل مع الوضع المعيشي والتنوّع الديموغرافي والواقع الحياتي. لا بدّ من التحدّث في هذا الإطار عن سلوك الشعب اللبناني في ظلّ الأزمة، والذي بعكس ما تخوضه سائر الشعوب من صراعات من أجل البقاء، يفضّل الهروب أي الهجرة. هذا ما أثبتته التجارب مع الحروب التي كانت تعصف بلبنان كلّ عقد وآخر، إذ كان السفر خيار اللبناني الوحيد، ما يجعل هويته الثقافية أكثر هشاشة من هوية الشعوب الأخرى وأكثر عرضة للتمحور. ومع ارتفاع عدد المهاجرين اليوم، تبدّلت ديموغرافية لبنان وتغيّرت تركيبته الطائفية، خسر أكبر عدد ممكن من الكفوئين والعاملين والطلاب والمثقفين ولم يبقَ في البلد سوى من فاته قطار الشباب وسوق العمل المُتاح أمامهم. يسيرون ونعش وطنهم فوق أكتافهم على درب الجمهورية الإسلامية، حيث يبيع المواطن أعضاءه لتأمين لقمة عيشه مع ازدياد التضخم. لا للتنوّع، لا للانفتاح، لا للتعليم، لا للترفيه، لا مكان للحياة في إقليم لبنان الإيراني حيث يُكتب على من يولد الموت.

شارك المقال