الفيديراليات تجفّف دولة لبنان

محمد علي فرحات

يبدو النقاش اللبناني السائد أشبه بمضيعة للوقت حين يعيش شعب بكامله على حافة الجوع. فنحن مدعوون لتأمين لقمة العيش لنا ولأطفالنا قبل تبادل الأفكار الإصلاحية لدولة مدفوعة إلى الغياب، وقبل تحييد قوى تحل محل الدولة وتنهشها الى حدّ الإلغاء. مهمة صعبة لحفظ الحد الأدنى من الحياة ولتأسيس مسار حياة أفضل.

لكن النقاش السياسي يعلو في لبنان فوق صراخ الجياع، وتلك ظاهرة لم يعرفها شعب قبلنا، كأننا نتفرد عن غيرنا ونتميز، فيما نقف على الحافة بين موت محقق وحياة أشبه بتنفس اصطناعي.

نقاش هذا أم هو سرد أخبار من هنا وهناك لإدانة هذا الطرف وتبرئة ذاك، فيما لبنان كله تحت حدّ السيف الذي تمسك بقبضته يد معلومة ومجهولة في آن؟ ولكن، أبعد من هذا السرد اليومي هناك كلام يعلو حول ضرورة الانتقال إلى نظام فيديرالي يحل محل نظامنا السياسي الذي اضمحل أو يكاد. والقائلون بالفيديرالية يستعيدونها كشعار كلما وصلت الخيارات السياسية الى طريق مسدود، فكيف بنا اليوم ودولتنا أشبه بجسم مشلول لا يستجيب لحاجات المواطنين ولا نداءات أصدقاء لبنان، ومنها نداءات دول كبرى تريد البقاء لوطننا ونجاته من انفجار يحطمه ويستكمل تحطيم محيطه الجغرافي الحساس، أعني المشرق العربي الذي انهارت دوله ومجتمعاته وما من أفق له في المدى المنظور.

لا يدري اللبنانيون، في معظمهم، أنهم يعيشون منذ حوالي العام 1990 صراعاً بين فيديراليات زعماء الطوائف وما تبقى من الدولة التي تآكلت مؤسساتها شيئاً فشيئاً حتى وصلت بها الحال إلى المشهد المأساوي البائس، حيث شعب يجوع ولا يوحده السعي إلى لقمة العيش.

لم يطبق اتفاق الطائف في جوهره إنما في شكليات مناصب طائفية ترعاها وتتعهد عملها سلطة سورية مهيمنة على وطن الأرز، حتى إذا اضطرت هذه إلى انسحاب شكلي بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري انصرف حكام لبنان الطائفيون إلى نهش جسم الدولة والمال العام والأملاك العامة، وحرضوا أتباعهم على مزيد من التعصب الأعمى ضد المصالح المشتركة لشعب كان يسمّى الشعب اللبناني.

والواقع أن الكيانات الطائفية المتصارعة والمتكاملة في آن، لم تجرؤ على إعلان لبنان فيديرالي، إنما مارست الفيديرالية في اقتسامها المال العام وأبقت على الدولة كملعب للتنافس على النهب بلا حسيب أو رقيب. ويعرف الجميع أن زعماء الطوائف الحاليين هم مزيج من جماعات مستجدة تمثل البنوك ووكلاء الشركات الأجنبية ومن قيادات الميليشيات التي ارتضت تسليم سلاحها بعد اتفاق الطائف، مع استثناء واحد هو “حزب الله” الذي أبقى على سلاحه بدعوى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حتى إذا انسحبت إسرائيل وجد لهذا السلاح وظيفة الردع تحت شعار الشعب والجيش والمقاومة، ثم وجد له وظيفة في الإقليم لتعزيز سلطة مموله الإيراني ولا يزال.

إقرأ ايضاً: “الفيدرالية” وعودة المكبوت التاريخي

الآن يقضي الفيديراليون على ما تبقى من الدولة اللبنانية الجامعة، لكنهم لا يريدون تحمل المسؤولية وإعلان دولتهم الفيديرالية. إنهم يضيعون الوقت ويتفننون في إطلاق الشعارات وفي صراع مفتعل حول الرئاسة والحكومة ومصرف لبنان وغير ذلك. لكنهم في الحقيقة يطلبون من العالم القريب والعالم البعيد أن ينقذ دولة لبنان من أجلهم هم لا من أجل الغالبية العظمى من المواطنين الجياع. يريدون تجديد المائدة ليواصلوا التهامها من جديد. لكن العالم كله يشترط للعلاقة بلبنان التخلص من الفساد الذي يعني ضمناً معظم الحكام وميليشياتهم المسلحة وغير المسلحة.

ويستند أهل الفساد في لبنان على فراغ سياسي رعوه وحافظوا عليه بالترغيب والترهيب، حتى لم يبق بديل ينافسهم في انتخابات ويحل محلهم في مناصب كبرى. انظر إلى ثوار 17 تشرين وبؤس تمثيلهم السياسي على رغم حسن النيات!

ها هو لبنان المجفّف سياسيّاً يحيّر العالم في كيفية إصلاحه، فالمواطنون الطبيعيون مغيبون أو غائبون، أما الفاسدون فهم سادة الماضي وربما سادة المستقبل. من يحلّ هذه الأحجية؟

كلمات البحث
شارك المقال