البطريرك وفخ موقع الرئاسة!

جورج حايك
جورج حايك

يتساءل قياديون لبنانيون من اتجاهات مختلفة عن عدد المرات التي راهن فيها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي على رئيس الجمهورية ميشال عون ووعوده بتسهيل تشكيل الحكومة، وكم من مرة أقدم على أفعال تتناقض مع هذه الوعود، متصلباً بمواقفه حول عدد الوزراء ومزاعم حقوق المسيحيين والصلاحيات، ليعود الراعي إلى قصر بعبدا محاولاً من دون كلل أو ملل إقناع عون بضرورة تسهيل تأليف الحكومة بالتعاون مع الرئيس المكلّف سعد الحريري.

ما يثير الاستغراب أن عظات الراعي منذ فترة تبدو جريئة ولا توفّر رئيس الجمهورية بانتقاداتها في مسألة الحكومة، وطروحات الراعي منذ ذلك السبت الأبيض أمام حشد شعبي كبير، بدا فيها متناقضاً إلى حد كبير مع تموضع الرئيس السياسي في كنف محور المقاومة والممانعة والسلاح غير الشرعي، وصولاً إلى موقفه الصريح في الفاتيكان في مطلع تموز الجاري قائلاً: “الجميع يخالفون الدستور بمن فيهم رئيس الجمهورية”.

شعر الجميع أن البطريرك أقدم على خطوة جريئة بل غير مسبوقة بعد اتهامات شريحة كبيرة له بتشكيل غطاء مسيحي لعون الذي تمادى وصهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في سياسة التعطيل منذ بداية العهد حتى اليوم. ويعرف القاصي والداني أن لا مبرر لهذا التوجّه إلا خوض معركة الرئاسة لباسيل أو تأمين الثلث المعطّل له في حكومة قد تدير البلد إذا تعذّر إجراء انتخابات نيابية ورئاسية سنة 2022.

لكن موقف البطريرك المتقدّم في الفاتيكان سرعان ما تلاشى عندما نقضه في زيارته الأسبوع المنصرم إلى قصر بعبدا والاجتماع بعون، إذ خرج البطريرك ليتحدث إلى الإعلام في كلام منمق توّج بموقف أثار استغراب الرأي العام قائلاً: “لا أحد معني بلبنان أكثر من رئيس الجمهورية بسبب الصفة التي يحملها!”.

لماذا يهادن البطريرك الراعي رئيس الجمهورية رغم معرفته بحقيقة تموضعه السياسي وإفلاسه الشعبي وتناقض مواقفه مع مشروعه أي الحياد الإيجابي والمؤتمر الدولي لأجل لبنان، إذ لا عون ولا باسيل كانا متحمّسين لطروحات الراعي بل يختلفان معه في العمق؟ وهل تضحي بكركي بمشروعها الوطني الإنقاذي لحماية الموقع المسيحي الأول في الدولة اللبنانية؟ ولماذا كل هذه التقلبات؟

العارفون بأسلوب الراعي يؤكدون أن لا تقلبات ولا تناقضات لدى البطريرك، إنما ما يُحكى في المجالس الرسمية لا يُمكن أن يُقال في وسائل الإعلام لأنّ هناك احتراماً للمقامات والمواقع، والبطريرك شخص مسؤول وليس سياسياً ولا يهوى المعارك السياسية الشخصية، إنما لديه هدف وطني هو إنقاذ لبنان من الإنهيار عبر تشكيل حكومة والذهاب إلى مؤتمر دولي من أجل لبنان وإعلان الحياد الايجابي، وبالتالي لا يهمّه الدخول في “زواريب” السياسة ودهاليزها والمهاترات والسجالات الشخصية مع هذا الرئيس أو ذاك. وما قاله للرئيس عون سيبقى في إطار المجالس بالأمانات، إلا أنه كان صريحاً ومباشراً، وأوضح له ما اتفق عليه في الفاتيكان، وهو بات معروفاً أنه ينقسم إلى ملفين: الملف الأول لبناني داخلي، يتولى إدارته البطريرك عبر تقريب وجهات النظر بين الرؤساء المكلفين تشكيل الحكومة والقوى السياسية، لأن البلد لا ينتظر المزيد من التعطيل، وحتماً سيستفيد الراعي من الدعم الفاتيكاني والدولي لأجل تحقيق ذلك. والملف الثاني دولي سيتولاه البابا فرنسيس والفاتيكان لتحريك عواصم القرار بهدف الاهتمام بلبنان ومنعه من الانهيار، وهذا ما يحصل اليوم، إذ تشهد الأزمة اللبنانية حراكاً دولياً حيوياً منذ مطلع تموز الجاري أي بعد اللقاء الفاتيكاني من أجل لبنان.

لا شك في أن كثيرين لا يعجبهم أسلوب البطريرك الراعي المهادن لرئيس الجمهورية كلّما زاره في قصر بعبدا، وربما يُفهم أن عون لا يزال خطاً أحمر لبكركي لا يجوز المسّ به، وهنا تقع الإشكالية الكبيرة لدى جزء كبير من الرأي العام الذي يعتبر الرئيس مسؤولاً عما يحصل للبنان والشعب بعدما تماهى مع “حزب الله” وأدى إلى عزل لبنان عربياً ودولياً.

إقرأ أيضاً: البخاري في بكركي… رسائل في كل الاتجاهات

المقربون من بكركي يعتبرون أنّ البطريرك انسان منطقي وواقعي، يعرف أن تموضع الرئيس عون يتناقض مع طروحات بكركي، لكن يهمه أن يستمر التواصل معه بدلاً من القطيعة والجفاء اللذين لا يخدمان التوصّل إلى حلول، ويعتبر أن العلاقة بين بكركي وبعبدا يجب أن تستمر رغم كل الاختلافات في وجهات النظر.

هذا الأمر يُزعج بعض القوى السياسية ويدفعها إلى النظر بريبة إلى بطريرك يهادن الرئيس عون ظالماً أو مظلوماً، رغم أن تاريخ العلاقة بين البطريركية المارونية والرئاسة الأولى لم تكن دائماً بأحسن حال، بل مرّت تاريخياً بـ”طلعات ونزلات”، فالبطريرك أنطون عريضة مثلاً كان معارضاً لرئيس الجمهورية بشارة الخوري في كيفية إدارته للانتخابات عام 1947. والبطريرك بولس المعوشي كان على خلاف في وجهات النظر مع الرؤساء كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو. والبطريرك نصرالله صفير كان متمايزاً عن توجهات الرئاسة الأولى من الياس الهراوي وصولاً إلى اميل لحود.

ببساطة البطريرك الماروني مهما كان اسمه هو ضمير كل لبنان، وعليه أن يقول كلمة الحق في وجه أي كان حتى لو كان رئيساً للجمهورية، ولا يهمّه الموقع بقدر ما يهمّه استمرار لبنان الدولة الحرة، السيدة، المستقلة والحياديّة، وهنا بيت القصيد!

شارك المقال