القاسم المشترك للخراب!

اكرم البني
اكرم البني

لا يحتاج المرء إلى كثير من التفكير كي يتمثل حقيقة تقول بأنه ليس من بلد استهدفه مشروع الهيمنة الإيرانية إلا وسار في طريق الخراب والدمار، ليس فقط بمعنى خراب البنيان والعمران، وإنما أيضاً خراب الحياة السياسية ومقومات الاقتصاد والروابط الاجتماعية والإنسانية، ويمكن أن ننظر من هذه القناة إلى ما حل بالعراق وسورية ولبنان واليمن، محفوفة بالمرارة من مفاخرة حكام طهران بسيطرتهم على أربع عواصم عربية!

هل يرجع السبب إلى مطامع ملالي طهران، باستعادة إرث الإمبراطورية الفارسية، لكن هذه المرة، عبر شعارات دينية وأدوات طائفية، ربطاً بالترويج لأوهام التفوق القومي، وتكريس ذلك في الدستور والتعليم، والحديث عن أن إيران تعيش على 30% فقط من حدودها التاريخية؟ أم يكمن السبب في البنية الإيديولوجية المتشددة للطغمة الحاكمة ودأبها على اعتماد نهج “تصدير” ما تسميه ثورتها الإسلامية، لتوسيع نفوذها إقليمياً، مسوغة التدخل في مجتمعات الغير وتفكيكها عبر منطق القوة والغلبة والادعاء بنصرة المستضعفين في الأرض وتحرير فلسطين ومواجهة الصهيونية والشيطان الأميركي الأكبر، كذا! ومتوسلة رايات مذهبية وأذرعاً عسكرية منفلتة من كل وازع أو رادع، كميليشيا الحشد الشعبي وتفريعاتها في العراق و”حزب الله” اللبناني وجماعات الحوثي في اليمن ونظام الحكم الدموي في سورية، من دون أن يرف لها جفن أن غدت بغداد وبيروت وصنعاء ودمشق عناوين للدمار والخراب وللدول الفاشلة.

وإذا استطاع أصحاب توسيع النفوذ الإيراني إثارة المظلومية المذهبية في العراق ولبنان وتشجيع فئات واسعة من شيعة البلدين على الالتحاق بمشروعهم وبولاية الفقيه، فقد استغلوا في اليمن انتشار المذهب الزيدي بصفته أحد مذاهب الشيعة وشجعوا زعماءه على تجاوز نقاط التفارق والاختلاف والتحول نحو أدوات لتنفيذ مآربهم، بينما كان التناغم الإيديولوجي بين النظام السوري والنهج الإسلاموي للسلطة في طهران حاضراً بصور متنوعة، خاصة في ما يروجانه عن وجود توافق تاريخي بين العلويين والشيعة وإنهما من جذر مذهبي واحد.

في لبنان مشهد الخراب واضح، ولا نحتاج إلى كبير عناء كي نلمس كيف أوصل المشروع الإيراني المجتمع هناك إلى الحضيض، مشجعاً “حزب الله” على التحلل من دوره الوطني ومجاهرته بولاية الفقيه وهتك دور الدولة ومؤسساتها وحماية الفساد والمفسدين في الأرض، والأخطر إرهاب واغتيال أي  شخصية سياسية أو ثقافية يشكل حضورها عائقاً، بينما يبدو المشهد أكثر بؤساً ودموية في العراق حيث بات للميليشيا الموالية لإيران اليد الطولى في السطوة والاستئثار والفساد مستبيحة مؤسسات الدولة وكل أشكال العنف ضد المتظاهرين العراقيين المطالبين بأبسط حقوقهم بما في ذلك تغييب واغتيال العشرات من الناشطين الشيعة الذين رفعوا راية الاستقلال عن إيران وأجهزتها الفاسدة، في حين تقول نتائج الحرب الدائرة في اليمن منذ سنوات كلمة الفصل، وتكشف المدى المزري الذي توغلت فيه جماعة الحوثي تعسفاً وقهراً وتخريباً في اجتماع الشعب اليمني وحيوات أبنائه ومستقبلهم، أما في سورية فحدث ولا حرج عن الدور التخريبي الذي مارسته إيران وميليشياتها، ولعل أخطر تجلياته التدخل العسكري لدعم النظام والاستباحة غير المسبوقة للبلاد وأهلها، بما في ذلك خلق قواعد عسكرية دائمة والسعي لتغيير الطبيعة الديموغرافية لبعض المناطق التي كان يقطنها السوريون السنة، إن على أطراف الحدود وإن حول المراقد الدينية الشيعية، وتحويلها إلى مناطق تسكنها ميليشيات شيعية من جنسيات متنوعة بعد تسهيل حصولها على الجنسية السورية، جنباً إلى جنب مع العمل على توحيد الجماعات الأهلية المسلحة التي ساهم الحرس الثوري الإيراني في تشكيلها خلال الصراع السوري، وتحضيرها جدياً كي تنضوي في حزب مسلح يتمثل تجربة “حزب الله اللبناني”، هذا عدا عن دور الاتفاقات السلطوية المذلة التي عقدت مع النظام الإيراني وسمحت للأخير بالتغلغل والتأثير في المكونات الاجتماعية والاقتصادية السورية، بعض ظواهرها تنامي الجمعيات الخيرية والمدارس الدينية الشيعية، ثم الفسحة التي تتسع باستمرار للتعبئة والتحشيد للمذهب الشيعي ولجعل شعائره أمراً مألوفاً وشائعاً في البلاد.

بديهي أن يتضافر مشروع الهيمنة الإيرانية بصفته القاسم المشترك للخراب، مع خراب داخلي في إيران نفسها جراء عسكرة الحياة وخطط التنمية وما هدرته معارك النفوذ الإقليمي من طاقات المجتمع وثرواته، ليغدو مجتمعاً منهكاً ومعوزاً وتتآكله أزمات متراكبة، بعض ظواهرها، الأوضاع الاقتصادية المأسوية، والتدهور المريع للعملة الإيرانية، وغياب الحد الأدنى من مقومات المعيشة، وذاك الفتك السريع لفيروس كورونا بالإيرانيين، ولا يغيب عن المشهد تواتر عمليات التصفية والقتل للمعارضين وموجات اعتقال وتغييب طالت عشرات الألوف من المتظاهرين الرافضين لاستمرار التسلط والفساد!

ويبقى، أن الطامعين بتوسيع النفوذ الإيراني في المنطقة والذين راهنوا، لاستمالة الشعوب العربية، على المشترك الديني وعلى مزايداتهم بنصرة القضية الفلسطينية والدفاع عما يسمونه حقوق المسلمين المهدورة، قد أخفقوا في رهانهم بعد أن فضحت النتائج والوقائع في غير مكان زيف ادعاءاتهم، وكشفت حقيقة مطامعهم الأنانية بثروات الآخرين ودوافعهم السياسية لتعزيز أوراق نفوذهم وقدرتهم على الابتزاز، والتي لا تمت للإسلام وفلسطين بصلة.

صحيح أن ثمة فرصة لنجاح مؤقت لمطامع الهيمنة وتوسيع النفوذ الخارجي، وربما لإحياء وتغذية نزعات امبراطورية من ماضٍ غابر، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الطريق باتت اليوم مؤلمة ومكلفة ومرفوضة، أياً تكن المسوغات، من مختلف الشعوب، وتفتح الباب على خيار يفيض بالصراعات العبثية والدمار والضحايا والأزمات، وكلنا يتذكر ما حل بالاتحاد السوفييتي وأوهامه، وبعده الانكفاء المذل للولايات المتحدة الأميركية، إثر عجزها عن إدارة تفردها في الهيمنة، تحت وطأة نتائج حربيها في أفغانستان والعراق.

شارك المقال