عن “المجلس الأعلى” وقيامته من الموت!

رامي الريّس

ليس من السهل التنبؤ بما سوف يشهده لبنان في المقبل من الأيّام، وهو أمر لم يكن يسيراً في أي مرحلة من المراحل السياسيّة بسبب صعوبة التركيبة اللبنانيّة وتعقيداتها المحليّة والإقليميّة، وبسبب أيضاً أداء بعض القوى الفاعلة فيه التي غالباً ما تضع مصالحها الفئويّة الخاصة على حساب المصالح الوطنيّة العامة.

لعل غياب آليّات المحاسبة السياسيّة والمساءلة الشعبيّة هي التي تحول دون أن تقدّم بعض القوى السياسيّة أداءً مختلفاً عمّا تقوم به راهناً، أو ما قامت به منذ سنواتٍ طويلة. وإذا كانت هذه الإشكاليّة تطرح نفسها بقوّة خلال المرحلة الماضية، فمن المرجح أن تتفاقم خلال الحقبة المقبلة مع التلاشي التدريجي لهيبة الدولة ومؤسساتها المتعثرة التي تجد صعوبة بالغة في القيام بواجباتها.

وتأتي حالة الوهن التي يعاني منها القسم الأكبر من القضاء اللبناني لتضاعف من الإشكاليّات المتصلة ببنيان الدولة ولتفاقم ظاهرة الضعف الرسمي في كل منافذه ومواقعه. ونظراً لأهميّة السلطة القضائيّة في أي نظام سياسي بسبب محوريّة دورها في المحاسبة وحل النزاعات وتطبيق العدالة؛ فإن جزءاً كبيراً من الانحراف الوطني الراهن مرده الأساسي هو عدم قيام هذه السلطة القضائيّة المستقلة وتالياً عدم تمكنها من لعب دورها كاملاً في إطار الحياة الوطنيّة لا سيّما لناحية لجم الفساد ومحاسبة المرتكبين مهما علا شأنهم.

ثمّة من يقول إن السلطة السياسيّة هي التي تحول دون قيام القضاء بدوره. لعل في هذا القول الكثير من الصحة خصوصاً لناحية ارتباط القضاء بتشكيلاته ومناقلاته وعمله الداخلي بقرارات مباشرة من السلطة التنفيذيّة وهو ما يناقض بحد ذاته مبدأ فصل السلطات الذي تُبنى عليه الدساتير الديمراقطيّة والأنظمة والقوانين المنبثقة عنها. ولكن هذا لا يعني أن القضاء لا يمكنه أن يتصرّف بمسؤوليّة وضمير متى امتلك الشجاعة للقيام بذلك دون أي اعتبار جدي للعناصر الأخرى التي قد تعيق عمله.

من الأمثلة الفاقعة والراهنة، الأداء المتصل بتحقيقات انفجار مرفأ بيروت، حيث تسعى بعض مكونات السلطة السياسيّة للالتفاف على قرارات المحقق العدلي بالادعاء على شخصيّات سياسيّة وأمنيّة تارة بطلبات إجتهاديّة حول أسس الادعاء وطوراً برفض منح الإذن بالملاحقة. وآخر تلك السلوكيّات استدعاء ذاك الهيكل العظمي من الموت: المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي لم يسبق له أن نظر في قضيّة أو التأم أساساً!

إقرأ أيضاً: عن لبنان الذي يحتضر!

ثمّة تحقيق يأخذ مجراه بقيادة المحقق العدلي، وليس هناك من داع لاتخاذ خطوات مناهضة لقراراته بهدف إفراغها من مضمونها وتضييع الحقيقة وتمييع كل محاولات كشفها من خلال تسييسها أو تطييفها. ضخامة الانفجار وضراوته وخسائره أكبر من أن يتم تجاوزها بخطواتٍ إلتفافيّة، حتى لو قّدّر لبعضها النفاذ إلى التطبيق، فثمّة محكمة للرأي العام ومحكمة أخرى للضمير وثالثة للتاريخ لا يمكن تجاوزها.

إذا كانت كل الكوارث التي تحل بلبنان لا تستوجب أداء سياسيّاً مختلفاً من بعض القوى القابضة على السلطة، فما الذي سيدفعها إلى ذلك؟

شارك المقال