اعتذار الحريري من مخرج إلى مشكلة للداخل والخارج

وليد شقير
وليد شقير

بماذا يمكن وصف هذا الإجماع الدولي في مواقف علنية صدرت من واشنطن إلى باريس والاتحاد الأوروبي وموسكو بالمطالبة بالدعوة “فوراً” أو “من دون تأخير” أو “في أسرع وقت” إلى إجراء استشارات نيابية لتكليف من يؤلف الحكومة سريعاً، بغير مزيد من التدويل للمأزق اللبناني.

انتقلت المتابعة الدولية لأوضاع لبنان على الفور من المواكبة التفصيلية لجهود الرئيس المكلف سعد الحريري عبر موفدين واتصالات هاتفية وبيانات من العواصم الكبرى لعلها تنجح في دفع فريق الرئيس ميشال عون إلى تسهيل ولادة التشكيلة التي عرضها الحريري عليه، إلى التركيز على وجوب الإسراع في تشكيل الحكومة برئاسة غيره، لإدراك هذه العواصم أن التأزيم السياسي مرشح للتمديد بعد تنحي زعيم تيار “المستقبل” عن المهمة.

فهذه العواصم، أرادت تجنب كأس اعتذار الحريري على رغم أن بعضها فضل التموضع في موقع حيادي يساوي الحريري بعون في تأخير التأليف، في العلن على الأقل، وهو ما أفاد منه رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل، أحياناً في إغراق بعض الديبلوماسيين والموفدين في نقاش لا طائل منه، حول الشراكة والميثاقية وحقوق المسيحيين، وصلاحيات الرئاسة الأولى، كانت تنتهي بعد اكتشاف مدى هشاشتها بأمر واحد بالنسبة إلى الفريق الرئاسي: لماذا يرفض الحريري الاجتماع إلى باسيل؟ أما بالنسبة إلى ممثلي المجتمع الدولي الذين انغمسوا في القيل والقال الرئاسي والباسيلي المفتعل حيال الحريري، فإنهم كانوا يصلون إلى النتيجة الجوهرية بعد استنفاد صلاحية الحجج المفبركة: الرئيس عون لا يريد الحريري رئيساً للحكومة.

بعض من حمل على أكتافه مهمة تسريع تأليف الحكومة لإدراكه مدى ضرر استمرار الفراغ على الوضع المالي والمعيشي، قد يكون بكّر في الاستنتاج بأن تغيير الرئيس المكلف قد يكون المخرج وهذه كانت الحال في باريس قبل بضعة أشهر، فأخذ يبحث عن البديل، حتى قبل أن يطرح الحريري هذا الخيار على نفسه في شكل جدي. وطُرحت في بعض العواصم معادلة حكومة الاختصاصيين من دون الحريري. بل إن بعض المتصلين ببعض العواصم ومنها باريس لم يخفوا أنها بحثت عن أسماء اختصاصيين، وأن إسم الرئيس نجيب ميقاتي كان في طليعتها، واستمزجت شخصيات لبنانية موثوقة من قبلها. وفي هذا الوقت كان الموفدون الأميركيون أو من يعرفون لبنان عن كثب في واشنطن، يسألون على الدوام، عما إذا كان الحريري سيتمكن من التأليف، وإذا استطاع هل سيتاح لحكومته أن تحقق الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي كشروط؟ موسكو كانت قلقة من أن إبقاء الحريري مكلفاً بلا تأليف، بموازاة التدهور المتواصل للأوضاع الاقتصادية والمالية، يهدد الاستقرار ويهز الأمن الذي تخشى منه على الوضع السوري الهش، مخافة استفادة المتطرفين الإسلاميين من اضطرابه. هذا كان هاجس القاهرة أيضاً، التي تضيف إلى مخاوف موسكو خشيتها من أن يتنامى الدور التركي المتمدد للإفادة من الحاجة المادية للسوريين واللبنانيين من أجل تصدير مقاتلين إلى دول تتدخل فيها…فضلاً عن الاهتمام التاريخي من قبل الجانب المصري بموقع رئاسة الحكومة في المعادلة اللبنانية. فهي استفظعت أن يجري تمكين فريق الرئيس عون وباسيل من الهيمنة على السلطة السياسية في وجه كل القوى السياسية الأخرى الوازنة في البلد وكل الدول التي تدعم المشروع الذي حمله الحريري استناداً إلى المبادرة الفرنسية. باختصار بقيت موسكو والقاهرة على تمسكهما بالحريري كل على طريقتها ولأسبابها.

زوار باريس نقلوا عنها قبل شهرين أن الوقت الذي ضاع منذ مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون وسط التعقيدات السياسية والاستعصاء الداخلي المعطوف على عدم تجاوب “حزب الله” في الضغط المطلوب على حليفه عون، (تبلغ الجانب الفرنسي ذلك بوضوح من الحزب)، بات يتطلب التركيز على أهداف أكثر تواضعاً من تلك التي وردت في المبادرة الفرنسية، أي وجوب تشكيل حكومة “انتقالية” كيفما كان، مهمتها من بندين: الأول هو التحضير للانتخابات النيابية في موعدها كمسألة لازمة وواجبة مع الضغط من أجل عدم تأجيلها والمساعدة في التحضيرات اللوجستية لها، وفي إنشاء آلية رقابة دولية دقيقة على نزاهتها من قبل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، لعلها تأتي بتغيير في الخريطة السياسية يتيح انطلاقة جديدة للبلد. والثانية هي التفاوض مع صندوق النقد الدولي في أسرع وقت من أجل استلحاق الانهيار، بتدابير أولية، على أن تنفذ الإصلاحات التي تتطلب وقتاً بعد الانتخابات من قبل الحكومة التي ستنبثق بعدها.

إقرأ أيضاً: اعتذار الحريري ينتج خريطة جديدة…ومبادرة فرنسية “متحوّرة”

قضى هذا التوجه بالتساهل حيال شكل الحكومة، ومن دون ممانعة لأن تضم سياسيين، بالعودة إلى اقتراح الرئيس ميقاتي بأن تكون تكنو سياسية، والذي استعاده الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله قبل 3 أشهر، على رغم إعلانه أنه لا يلغي التزام حزبه بحكومة الاختصاصيين غير الحزبيين أمام الجانب الفرنسي في 1 أيلول الماضي.

إلا أن العواصم التي كانت بدأت قبل أشهر تبحث عن مخرج يشمل خروج الحريري من التكليف، لانسداد أفق التأليف، عادت بفعل مبادرة رئيس البرلمان نبيه بري إلى المحاولة التي بذلها الأخير مع ما كلفه ذلك من جهد لإقناع “حزب الله” بها.

كل العصف الفكري الذي شغل المهتمين بالملف اللبناني في العواصم الكبرى بحثاً عن مسار آخر لإدارة الأزمة فرض شبح استعصاء التعقيدات السياسية الداخلية، العودة إلى محاولة جديدة عبر تشكيلة الحريري الأخيرة. فالمخاوف الحالية من أن يتسبب جنوح الفريق الرئاسي العوني نحو التفرد بالسلطة وتعديل اتفاق الطائف بالممارسة، مستظلاً حاجة “حزب الله” إليه لأسباب تتعلق بالمفاوضات الأميركية الإيرانية، ومن دون إقامة الحليفين أي وزن للآثار الكارثية لاستمرار التعطيل على اللبنانيين بتمديد الفراغ بعد الاعتذار، هي نفسها التي دفعت العواصم التي كانت تميل إلى بديل عن الحريري إلى إعطاء فرصة لمبادرة بري. بفشل المحاولة تدرك هذه العواصم أن الأزمة ستطول ولن تتغير المعادلة أمام جموح الفريق العوني لفرض شروطه. فالاعتذار ليس فاتحة حل أو مخرج، إلا للحريري، الذي بات على المستوى الشخصي مرتاحاً بأنه لم يعد متهماً بالاشتراك في التعطيل بعد 9 أشهر من التأرجح والمراوحة اللذين تسببا له بخصومات مع حلفاء وأصدقاء مفترضين مثل رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، وآخرين…

فالانقسام السياسي الأكثر عمقاً من مسألة حصة وزارية للرئاسة أو لرئيس الحكومة تفرض نفسها على ما بعد الاعتذار الذي تحول إلى محطة في الأزمة المتمادية، وليس نهاية لها. ومع أن الحريري استخدم مع الجانب الروسي الحجة القائلة بأن “الفريق الرئاسي قد يقبل لغيري ما رفضه لي” حين جابهته الديبلوماسية الروسية بالحجة القائلة إن الاعتذار لن يحل المشكلة بل قد يزيدها تعقيداً، فإن زعيم “المستقبل” يدرك من خلال ما اعتبره خلال الأشهر التسعة الماضية مدى صعوبة التفاهم مع الفريق الرئاسي العوني. وهو لم يبق البحصة بكاملها في مقابلته التلفزيونية. وحين سأله الموفد الرئاسي الروسي نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف في اتصاله الثاني معه بعد الاعتذار عما يتوقعه وإذا كان مرشحاً في الاستشارات النيابية المقبلة لاختيار رئيس الحكومة كان جوابه أن الموضوع انتهى بالنسبة لي ولست مرشحاً.

إقرأ أيضاً: أولوية نصر الله صيانة تحالفاته المتناقضة على تشكيل الحكومة

بالعودة إلى إصرار كافة الدول في تعليقاتها على الاعتذار، على الإسراع في الاستشارات، فإنها باتت تدرك أثمان التأخير عليها لاضطرارها إلى تكثيف المساعدات الإنسانية للبنانيين، والتي تتطلب آلية متابعة دولية في انتظار الانتخابات. وهو ارتقاء بالتدويل البطيء إلى درجة جديدة، من إدارة الوضع اللبناني. فالجميع، في الداخل والخارج يميل إلى الاعتقاد أن الفريق الرئاسي سيؤخر الاستشارات حتى يجد الصيغة الملائمة له لتسمية البديل، في وقت أخذ رؤساء الحكومات السابقون قرارهم بعدم تسمية أي مرشح. فالمحاولات التي كان بذلها الحريري بالاشتراك مع بري، مع الرئيس نجيب ميقاتي كي يتولى المهمة، قبل أسابيع، انتهت إلى عدم حماسة الأخير للفكرة، في ظل توجسه من إفشاله من قبل العهد. وفي الوقت الذي كان خيار ترؤس ميقاتي الحكومة كي تشرف على الانتخابات، فإن الأخير مصمم على الترشح في طرابلس، وبالتالي يحسب حساب تأثير التدهور المتواصل في الأوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية على وضعه الانتخابي في حال تولى المسؤولية من دون أن يتمكن من أن يحدث أي تقدم في حال عرقلة عمل حكومته. وثمة من يقول إن الأمر متوقف على الضمانات التي يمكن أن يحصل عليها لتمكينه من تغيير المسار الانحداري للأوضاع المالية في البلد، وهو أمر ما زال محفوفاً بالكثير من الأسئلة والمخاطر.

أما ما تردد عن إمكان اللجوء إلى خيار النائب فيصل كرامي، فإن الأمر يبقى في إطار التكهنات الإعلامية حسب أوساطه، التي تؤكد أن أحداً لم يفاتحه بالفكرة. وتقول هذه الأوساط إنه في كل الأحوال هو لديه معاييره وشروطه لأن لا أحد يرمي نفسه في أتون النار من دون ضمانات.

شارك المقال