التعطيل الحكومي كوسيلة لاستكمال “تغيير النظام”

عبدالوهاب بدرخان

عندما اقترب التحقيق في انفجار/ تفجير مرفأ بيروت من رفع الحصانات عن مسؤولين سياسيين وأمنيين، تمهيداً لاستجوابهم، استشعر “حزب إيران/ حزب الله” خطراً، فانبرى أمينه العام لإطاحة هذه الخطوة وطلب عملياً أن ينحصر التحقيق في مربع “الإهمال الإداري” مستخدماً جزرة “تعويض المتضرّرين” ليتفادى انتقادات مصرّة على تحديد المسؤوليات السياسية عن الجريمة، وهذه قد تضطر “الحزب” وزعيمه للعودة إلى عصا الاغتيالات على غرار ما فعلا في الحرب على المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري ورفاقه. في الجريمتين، أو بالأحرى، في الجرائم المتسلسلة، كان الحليف “العوني” متواطئاً إلى أقصى حدّ، مميّعاً الشكوك والاشتباهات، ومتأبّطاً صكّ البراءة لحليفه. بالنسبة إلى الاغتيالات، هاجم الحليفان المحكمة الدولية بضراوة، وعملا بالشراسة ذاتها لاستبعاد التحقيق الدولي في كارثة المرفأ. كان الحليفان ولا يزالان ضد معرفة الحقيقة، فالحقيقة تكشف قذارة مصالحهما.

لا مبالغة في القول أن تلك المصالح هي التي أوقعت لبنان في لجّة الأزمة الشاملة التي يتخبّط فيها منذ عامين. هذه الأزمة أفقرت البلد وكل فئات الشعب، ويتكشّف يوماً بعد يوم أن هذين الحليفين يستغلّانها لتدبير انقلابهما على النظام. لم يعد خافياً أن انتخاب ميشال عون رئيساً كان في مخطط “الحزب” خطوةً أولى في ذلك الانقلاب، إذ ضمنت أن رئيس البلاد لن يسمح ببقاء “عدم شرعية سلاحه” قيد التداول السياسي. سقطت شيئاً فشيئاً كل الإشارات المخاتلة التي أطلقها عون وأتباعه بأنه، كرئيس، سيكون أميناً على الدستور والسيادة والاستقلال والدولة، ولو فعل، بل لو احترم القسم الرئاسي، لكان اصطدم بالحليف. وما لم يفعله عون لإضفاء “مشروعية” على “حزب إيران” وسلاحه ودوره وتآمره على البلد، تولّاه صهره “رئيس الظل” الذي أوهمه “الحزب” بأن سلوكه الحسن يعزّز حظوظ ترئيسه بعد عمّه، ومن جهته اعتبر جبران باسيل أن هيمنة “الحزب” على الطائفة الشيعية تبرّر سعي “التيار العوني” إلى الهيمنة على المسيحيين مستنسخاً الشحن الطائفي الذي اتّبعه “الحزب” حيال الشيعة.

تلك المقدّمات، من التواطؤ مع الجرائم، إلى قمع “ثورة 17 تشرين” وتجاهلها، إلى عدم مواجهة الأزمة المالية – الاقتصادية – الاجتماعية بل تعميقها، تبدو ضرورية أولاً لإدراك أن هذين الحليفين لم يعترفا بوجود خلل سياسي في معالجة هذه الأزمة، وإذا اعترفا فلإلقاء المسؤولية واللوم على الآخرين الذين يؤخّرون بلوغهما المراحل التالية من “الانقلاب على النظام”. وضرورية أيضاً لتسليط الضوء على دور الحليفين في تعطيل حتى حكومة حسان دياب التي جاءا بها ومنعها من التعاطي الجدّي مع المؤسسات الدولية واستخدماها لإدارة الانهيار، لأن الانهيار من متطلبات “الانقلاب”، واستطراداً لتبيّن حقيقة المسارعة إلى دفن حكومة مصطفى أديب في مهدها، ثم المناورات الخبيثة لإجهاض مشروع “حكومة الاختصاصيين المستقلّين” مع الرئيس سعد الحريري. إذ أن الأخيرَين استندا إلى المبادرة الفرنسية لوقف الانهيار، وقد توافق الحليفان على إحباطها لأنها لا تخدم مآربهما: “حزب إيران” كذب حين قال إنه يؤيّدها وهو يعلم أن الإصلاحات المطلوبة دولياً تقلّص هيمنته على قرارات الدولة وأجهزتها ويُفترض أن تنهي أو تضيّق منافذ اقتصاد التهريب الذي يديره. أما “التيار العوني” فوجد في المبادرة تعزيزاً للدور الحقيقي (الدستوري) للحكومة، ما يفرغ معركة “صلاحيات الرئيس” وما تُسمّى “حقوق المسيحيين” من مضمونها، وما يقوّض الطموحات الرئاسية للصهر العبقري.

إقرأ أيضاً: فراغان في إضراب واحد: المعيشة والحكومة

عندما قال الرئيس الحريري إن “مشكلة لبنان هي ميشال عون” كان ينبغي استكمال العبارة بـ “… وحزب الله”، لكن الجزء الثاني جاء مخَفّفاً في سياق الكلام، وكأن عون أصل البلاء وليس “الحزب”، مع أن الخارج بات يعرف قبل الداخل أن رئاسة الجمهورية صارت “دمية الحزب”. ولم يكن الحريري مضطرّاً لانتظار ما بعد الاعتذار ليشير إلى أن “الحزب” لم يسهّل تشكيل الحكومة، ولو سهّله لكان عرقل عمل حكومته بعد منحها الثقة، غير أنه فضّل العرقلة المسبقة متبرّئاً منها بإلباسها لعون وباسيل وخفافيشهما طالما أنهم عاقدو العزم على عدم التعاون مع الحريري، ولو اضطرّوا لمخالفة الدستور والميثاق. الواقع أن “الحزب” استثمر الحقد الشخصي لدى عون وباسيل حيال الحريري، كوسيلة للعبث السياسي ولكسب الوقت في مواءمة سياسته الداخلية مع أجندة إيران والمفاوضات النووية التي تأجّل الحسم فيها إلى أيلول أو تشرين.

لم يعد أمام الحليفين سوى خيار “حسان دياب 2” إما بإعادة تدويره أو بإيجاد بديل مشابه، إذ لم يعد يعنيهما أو يناسب مصالحهما أن يكون رئيس الحكومة ممثلاً قوياً لطائفته أو شخصية لها علاقات عربية ودولية. “حزب إيران” يعتبر أن ارهابه المتمثّل باغتيال رفيق الحريري والاغتيالات الأخرى شكّل احتواءً للسنّة، و”التيار العوني” يريد أن يستفيد من هذا الاحتواء. لذا يلتقي الحليفان على ضرورة تمزيق “اتفاق الطائف” لغايات باتت معروفة: “التيار” لـ “استعادة صلاحيات الرئيس” بتهميش صلاحيات مجلس الوزراء واعتماد المجلس الأعلى للدفاع بديلاً منه، أما “الحزب” فيسعى إلى “تغيير النظام” ولو بقوة الأمر الواقع والتعويل على سلاحه غير الشرعي لإشاعة الترهيب. كان “الحزب” أدار دور الرئيس نبيه برّي بشكل يوحي بأن “الثنائي الشيعي” متمسّك بالحريري لرئاسة الحكومة، لكن الحريري استخلص متأخراً أن “الحزب” كان متمسّكاً بحليفه عون، وكلاهما متمسّك بإدامة الأزمة ولو على حساب لبنان واللبنانيين.

شارك المقال