وباء الشعبوية

عالية منصور

الشعبوية من أكثر المصطلحات المستخدمة حالياً في وصف الكثير من الأحداث والتصريحات في الساحة اللبنانية، ولكن في الوقت نفسه يجد الخطاب الشعبوي جمهوراً واسعاً ليس بين أبناء الشعب فقط، بل صار له خطباء معروفون، سياسيون وصحافيون وحتى بعض المثقفين بات خطابهم وكتاباتهم لا تخلو من الشعبوية بل والغرائزية.

وليس المقصود بالخطاب الشعبوي هنا بالخطاب الذي يعبر عن رغبة الجماهير وحاجاتهم، بل المقصود هو الخطاب الذي يتلاعب بأفكار الناس وعواطفهم ويحمل أخباراً ومعلومات مضللة لغايات سياسية قد لا يدركها الجمهور بسبب سرعة انتشارها، فيصبح هدف الخطاب السياسي والإعلامي التابع أو الملحق بهذا السياسي أو ذاك هو تهييج مشاعر الناس وإثارة حماستهم وغرائزهم بل وتحريضهم على الكراهية ضد خصومهم أو كل من يختلف معهم بالرأي إن كان سياسياً خصماً أو فئة من المجتمع. حتى أصبح صاحب أي خطاب عقلاني واعٍ هو عدو لرغبة الجماهير، بل ومتهم أنه يدافع عن مصلحة السياسي الخصم. فلا مكان هنا إلا للخطاب الغرائزي وأي محاولة لإحداث خرق بهذا الخطاب أو توضيح معالم التضليل فيه يصبح هذا المحاور عرضة لشتى أنواع الهجوم والتخوين.

في السابق عرف جمال عبد الناصر بخطابه الشعبوي، حاكى غرائز الشعوب العربية وأحلامهم لدرجة لم يدركوا حجم الهزائم التي تسبب بها بسبب نشوتهم بالخطاب نفسه، إلا بعد وفاته بسنوات، أما من أدرك خطر خطابه الشعبوي وسياساته، فقد عاش منبوذاً وعرضة للتخوين إن لم يمضِ سنين طويلة من حياته في السجن.

حافظ الاسد لم يخل خطابه أيضاً من الشعبوية، ففي الوقت الذي كان يتغنى وحزبه وجيشه وعسكره بالوحدة والحرية والاشتراكية كانت المجازر ترتكب في سجونه بحق كل صاحب رأي، والنهب يطال الأخضر واليابس في البلاد، وبينما كان يتوعد، كما “حزب الله” اليوم، العدو الإسرائيلي بالقتال وتحرير القدس، كان عسكره يقتل الفلسطينيين كما اللبنانيين والسوريين، وكان يفاوض الإسرائيلي سراً وعلانية، ومع ذلك كانت هناك فئة من جميع هؤلاء تصدق خطاباته بل وتحاجج أن نظام الأسد سيحرر فلسطين ويوحد العالم العربي ويمنحه حريته.

اليوم ينتشر الخطاب الشعبوي في لبنان بسرعة هائلة، حتى باتت بعض محطات التلفزيون والصحف التي كانت معروفة سابقاً بمصداقيتها ودورها بنشر المعرفة والثقافة وحرية الاختلاف، أداة لنشر معلومات مغلوطة بل والتحريض على الخصم بنشر اخبار كاذبة لأهداف سياسية تناسب أهداف الممول، وخصوصاً مع ازدياد شدة الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان وقطاع الإعلام، حتى باتت بضعة آلاف من “الفريش دولار” شهرياً قادرة على خلق المئات من تلاميذ “غوبلز”.

مأساة أو كارثة الانفجار الذي ضرب مرفأ بيروت قبل نحو عام من الآن، شكلت مادة خصبة للشعبويين لضرب خصومهم، ومع أن الكثير قد كتب وكشف عن علاقة نظام الأسد بشحنة نترات الأمونيوم، إلا أن بعضاً ممن يعتبرون انفسهم “سياديين” وصحافيين مستقلين أو مؤيدين للثورات، باتوا يتعمدون تجاهل كل ما له علاقة بموضوع ملكية الشحنة ولمن أتت وأين اختفت باقي حمولة الباخرة، فباتوا يصوبون وبكثير من الأحيان طائفياً بكل أسف على تيار “المستقبل” فقط دون سواه. حيث يصدف أن تقرأ أو تسمع مثلاً لصحافي أو سياسي يعلن أن تيار المستقبل صوت ضد رفع الحصانات، المضحك أن نفس هؤلاء الصحافيين أو/و السياسيين قد أعلنوا قبل أسبوع أيضاً أن المستقبل صوت ضد رفع الحصانات، علما أن جلسة لمجلس النواب للتصويت لم تعقد بعد لا هذا الأسبوع ولا الأسبوع الفائت، وبدل تأييد أو معارضة وجهة نظر المستقبل بما يتعلق بموضوع التحقيقات، والحصانات، لجأ “الخصم” إلى نشر أخبار أقل ما يقال إنها غير دقيقة، إما لأنه يعتبر الشعب والجمهور غير واع كفاية لتبيان الفرق، أو لأنه لا يملك سوى حجة التضليل ونشر الأخبار الكاذبة.

يحدث أيضا أن بتنا نقرأ ونسمع لسياسيين وإعلاميين كانوا يوماً من قادة الرأي بـ 14 آذار ورددوا قسم جبران تويني بالساحات خلال سنوات طويلة، يحدث أن نسمعهم يتحدثون عن أن انفجار المرفأ استهدف المسيحيين وأنهم كانوا يتوقعون “تضامن” المسلمين معهم، ويحدث أن يتم ربط جريمة اغتيال رفيق الحريري واستنكارها آنذاك بالموقف المطلوب من المستقبل اليوم، وصدقاً حتى كتابة هذه السطور لا أعرف إن قام أحد بإحصاء عدد الضحايا ونسبة المسلمين والمسيحين بينهم، أو قام أحد بمسح الأضرار على أساس طائفي ومذهبي، مع أننا سمعنا أحد نواب التيار العوني يطالب بعدم دفع تعويضات للضحايا غير اللبنانيين. ولا أعرف لو عادت الساعة إلى الوراء هل كان هؤلاء غيروا رأيهم باغتيال رفيق الحريري؟

ارتكب تيار المستقبل خلال السنوات الماضية اخطاء قاتلة، وأول ضحايا هذه الأخطاء كان تيار المستقبل نفسه، ولكن وعوضاً عن أن نسمع ونقرأ نقداً لهذه السياسات وللنتائج الكارثية التي ترتبت عنها، بتنا نسمع خطباً رنانة لانتقاد المستقبل مرة وشخص سعد الحريري مرات. بتنا نسمع أن المستقبل الذي هوجم قبل سنوات لانه كان يرفض أن يتحول إلى تيار سني عوضاً عن كونه تياراً عابراً للطوائف، بات يهاجم اليوم ليس بسبب موقفه فقط، بل كونه ممثلاً للطائفة السنية.

من اتهم الحريري والمستقبل بمصادرة رأي المسيحيين قبل رضوخهم لرغبة الثنائي المسيحي عون – جعجع وانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بات اليوم يحمل سعد الحريري وحده مسؤولية التسوية الرئاسية وانتخاب ميشال عون. فيبدو وكأن ما هو مطلوب من تيار المستقبل والحريري هو فقط تنفيذ رغبات الآخرين من دون أي مفاوضات أو تسويات، وكأن المطلوب فقط كان توقيعه على الاتفاق.

إقرأ أيضاً: صندوق النقد الدولي: اقتصاد لبنان سينكمش بـ 9% في 2021

من يعيب على المستقبل التسوية كان يجب أن يعارضها منذ اليوم الأول لا أن يكون عرابها، ومن ينبش في الأرشيف ليعيد نشر الصورة الشهيرة لزيارة سعد الحريري إلى دمشق ولقائه مع بشار الأسد، عليه أيضا أن يبحث عن تصريح زعيمه عن مباركة هذه الخطوة لمصلحة لبنان، وعن تأييد حزبه لما بات يعرف باتفاق السين سين، أي السعودية سوريا، والتي كانت هذه الزيارة والصورة الشؤم إحدى نتائجها.

نعم أخطأ المستقبل ويستمر بارتكاب الأخطاء، ولكن أغلب معارضي المستقبل اليوم ليسوا معنيين بالأخطاء وأسبابها أو الدعوة لتغييرها، هم فقط معنيون باستخدام خطاب شعبوي، أو للدقة خطاب ديماغوجي، فوفقاً للباحث الفرنسي بيير أندريه تاغييف أنه من الخطأ مساواة الشعبوية مع الديماغوجية. فالديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه.

وهنا تكمن الحكاية، ولا أعرف إن كان الشعب سيقول يوماً: “اغفر لهم يا أبتاه ” فهم يعلمون تماماً ماذا يفعلون.

شارك المقال