دفاعاً عن بري الدولة…

محمد شمس الدين

من نكد الدّهر أن يمتطي الأقزام أسوار السّياسة ويوضعوا في كفّة ميزان المواقف قبالة رجل الدّولة الوحيد نبيه برّي.

فقد امتهن هؤلاء السّياسة وحوّلوها بوّابة للصّفقات والسّمسرات على حساب الدّولة والنّاس، واحتموا بخطاب طائفيّ مقيت ساهم في توسيع الهوّة بين المكوّنات اللّبنانيّة.

نبيه برّي اسمٌ برز في الجمهورية الثانية، فصار مرجعيّة محلية وإقليمية ودولية، ومحطّ المسؤولين والدبلوماسيين والمهتمّين بالشّأن اللّبنانيّ، لأنّه، بنظرهم، الرّجل الوحيد الذي تستطيع أخذ الزبدة منه، وهذا إن دل على شيء فهو على المكانة السياسية الّتي احتلّها برّي في المجتمع الدولي، فأثبت نفسه لاعباً بارعاً في عالم السياسة، ومذكرات سفراء ووزراء خارجية الدول ودبلوماسييها أكبر دليل على ذلك، حتى إنَّ حافظ الأسد الذي يُعد من كبار المحنكين في السياسة بشهادة هنري كيسنجر، شهد على حنكة وذكاء الرئيس بري السياسي. ولكن اليوم لبنان لا يدار من بري بل إنَّ الدخلاء الجدد على السياسة والحاكمين بقوة الابتزاز يسوقون عبارة “انتهى نبيه بري” ويعلنون الانتصار، فهل فعلاً انتهى زمن رجالات الدولة والساحة اليوم لصغارٍ ذوي مصالح خاصة كبرى؟

بري المرجعية الجامعة رغم السهام

تعرض الرئيس بري منذ بداية مشواره السياسي لحملات من كل حدبٍ وصوب، البعض المستجد منها مفهومٌ بسبب الأوضاع الاقتصادية، حتى إنَّ الرئيس بري حمّل نفسه وحركته جزءًا من المسؤولية بما آلت إليها الأوضاع في لبنان، البعض الآخر يأتي في سياقات عدة منها الغيرة، ومنها بسبب وقوفه عقبة بوجه مشاريع داخلية وخارجية تُرسم للبنان، والبعض الآخر منها بسبب حمله قضية الإمام الصدر وعدم المساومة عليها حتى لو كانت ستضره شخصياً.

ولكن رغم كل ذلك لم يأخذ الرئيس بري موقفاً قاسياً تجاه كل من يسوق الحملات ضده، بل اعتبرهم جميعاً أولاداً محتم نضوجهم يوماً، حتى عندما قررت سوريا محاربة بري في فترة النظام الأمني، لم يحمل على سوريا، وعندما أراد الجميع ذبح سوريا من باب لبنان وقف إلى جانب سوريا، وحتى مع موجة الربيع العربي التي لحقت بسوريا، كان موقف الرئيس بري أنَّ الحل لن يكون إلا سياسيًا، وعندما اشتد الخلاف الإيراني – العربي، لم يأخذ موقفاً مع طرف ضد الآخر، بل اعتبر أنَّ المستفيد من هذا الخلاف هو العدو الصهيوني وحده.

أمّا في الداخل اللبناني لا يعتب بري على الأفرقاء السياسيين لمخالفة نصائحه، فهو مثلاً، لم يأخذ على الحريري عندما سار بالتسوية مع عون ولم يأخذ عليه أيضاً عندما استقال بالحكومة، وهو كان معه لآخر لحظة قبل اعتذاره عن التشكيل أخيراً، ولم يأخذ على صديقه القديم وليد جنبلاط عندما سار بعون متفهماً وضع زعيم المختارة يومها، وأيضاً تغاضى بري عن سهام صغار السياسة عليه، حتى إنّه وبعد فترة من هجوم رئيس التيار الوطني الحر عليه، فتح باب التهدئة واستقبله في عين التينة، وفتح له منبر قناة الـ NBN بمقابلة عبر أحد برامجها الحوارية، بينما يشاهد اللبنانيون خطاب النبرة العالية عند الأفرقاء السياسيين الآخرين عند كل اختلاف بسيط، حيث تبدأ المواقف المتشددة ضد بعضهم، ولا تبقى محرمات، من نبش قبور الحرب الأهلية إلى التخوين والتهديد بالشارع والفوضى، وأيضاً يرى اللبنانيون اعتكاف بعض الأطراف عن إبداء المواقف، منعاً للإحراج أو لحسابات سياسية معينة، حتى إنَّ بعض جماهير الأحزاب أًصبحت تستهجن غياب حزبها عن الساحة المشتعلة، أو عن موقفه بإجراءاتٍ معينة قد تكون غير شعبوية، أما بري فهو يأخذ على عاتقه القبض على الجمر رغم ما قد يمكن أن يكلفه سياسياً وشعبوياً.

الحالة العونية العابرة

بعد تعطيل تشكيل الحكومة اليوم والفراغ القاتل، ما زال الرئيس بري يأخذ موقف الإطفائي، ورغم علم الجميع بمن يقف خلف التعطيل، إلا أنَّ عين التينة لا تقلب الطاولة، ولا تبادر إلى المواجهة، الأمر الذي يجده الكثيرون حتى من جمهور حركة أمل أنّه زاد عن حده، ويستطيع أي كان أن يجول على حسابات مناصري أمل وسيجد أنّهم يتوقون إلى مواجهة حقيقية مع العهد الأسود الذي أحرق البلد من أجل مستقبل صهر نيرون السياسي كما يصفونه، كأنهم يقولون إنّه حتى الأطفائي يستخدم الفأس أحياناً، حتى إنَّ جمهور خصوم بري يعتبرونه الوحيد الذي يمكن أن يلجم تجبر عونستان كما يصفونها وانتشال لبنان من براثن العهد الذي حقق وعده بإيصال لبنان إلى جهنم، وفي الجهة الأخرى يسوق العهد بروباغندا “قوى الطائف” أنها متحالفة ضده، ويحاول غسل دماغ الجمهور بما يسميها “أدلة” لا تمر على أحد، يستشهد بتحالفات نقابية أو طلابية، علماً أنَّ لهذه حساباتها الخاصة، وببحثٍ بسيط بالأرشيف يمكن ملاحظة التحالفات المختلفة بالنقابات أو الجامعات، حيث قد تكون حركة أمل متحالفة مع التيار الوطني الحر ضد حلف حزب الله والقوات اللبنانية، ولا أحد يفسر هذه التحالفات على أنّها سياسية أو انتخابية، وهي تبقى ضمن إطارها فقط. ورغم هذا لا يوجد ردٌ من عين التينة، التي تعتبر أنَّ العهد ومن لف لفيفه لا يمكن أن يرتقوا إلى مرتبة الخصم، هم حالة عابرة ستنهي نفسها بنفسها بسبب أحقادها وجشعها على السرقة وتعطشها للسلطة، ولن تنزل عين التينة لهذا المستوى الضعيف بالسياسة، أما عن الحرب التي فتحها العهد بما يبدو أنّه تحضيرٌ للانتخابات، فهي أشبه بقصة المزارع الأسترالي ليوناردو كاسيلي، الذي أعلن الحرب على أستراليا، وبما أنّه لم يحضر أحد لمحاربته اعتبر نفسه منتصراً، كذلك هو العهد المدمر ينتشي على انتصاراتٍ وهمية يشرب كأسها مع مناصريه الذين يتضاءلون يوماً بعد يوم، وعين التينة ستستمر بالعمل من أجل البلد بعد أن تنهي الحالة العابرة نفسها بنفسها، والموعد مع الاستحقاقات القادمة.

إقرأ أيضاً: “حزب الله”: جبران ضرورة… بري: الحريري أكثر من ضرورة

صدح صوت البرغوث في الغابة أنّه هزم الأسد، وتناقل الخبر كل من الحمار والقرد والثعبان والدجاجة، حتى إنَّ البرغوث صدّق كذبته كون الأسد لم يأتِ ليؤدبه عليها، وهذا حال لبنان اليوم. هناك دخلاء صغار العقول والنفوس على عالم السياسة يريدون أن يسجلوا إسمهم في التاريخ أنهم هزموا الكبار، ولكن التاريخ سيلعنهم لأنهم لم يهزموا إلا الشعب، بينما كبار السياسة مثل نبيه بري سينصفهم التاريخ ويثني على حكمتهم وصبرهم أمام براغيث السياسة.

شارك المقال