حزم سعودي وراديكاليّة قواتيّة

جورج حايك
جورج حايك

نُسجت أساطير وقصص وهمية عن علاقة القوات اللبنانية بالمملكة العربية السعودية، و”شيطنت” بعض أقلام محور الممانعة هذه العلاقة الاستراتيجية إلى حد كبير، وبدت أقرب إلى الخيال!

لا شك في أن هناك انسجاماً كبيراً بين الرؤيتين السعودية والقواتيّة حول سبل إنقاذ لبنان من أزماته الكبيرة ولا سيما مسألة سلاح “حزب الله” وهيمنته على القرار الرسمي اللبناني ووضع بلد الأرز في محور يزعم المقاومة، وهو ليس سوى محور يخدم المشروع الإيراني الطموح الذي يهدف إلى السيطرة على دول المنطقة وإخراجها من العمق العربي الذي تنتمي إليه.

في أيلول 2020 كان العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز أول من حمّل “حزب الله” مسؤولية الانفجار المدمّر الذي هزّ بيروت في 4 آب 2020 ودعا إلى نزع سلاح الحزب لتحقيق الأمن في البلاد.

في الواقع، تميّزت السياسة السعودية بالحزم منذ تأجج الصراع مع ايران عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وانتظرت دوائر القرار في السعودية من القوى اللبنانية السيادية أن تكون على مستوى التحديات، على الأقل في المواقف والقرارات السياسية الكبرى، فصمدت حتى عام 2008 وتحديداً حتى اتفاق الدوحة، سرعان ما خيّبت آمال القيادة السعودية بتنازلات متتالية وارتباطها بتسويات على حساب سيادة لبنان وانتمائه العربي، ما أضعف الدولة لصالح “الدويلة”، وأدى لاحقاً إلى فرط تجمّع قوى 14 آذار، تنظيمياً وسياسياً، ولم يبق إلا القوات اللبنانية رأس حربة في المواجهة ضد خيارات “حزب الله” من دون مساومة بمواقفها حتى عندما اضطرت “مكرهة” إلى إبرام تفاهم معراب مع التيار الوطني الحر وترشيح رئيسه ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وقد فعلت ذلك بعدما “حوصرت” من حلفائها الذين ابتعدوا عنها باللجوء إلى تفاهمات مع قوى 8 آذار. لكن القوات بقيت على مبادئها ومواقفها وأدبياتها رغم كل شيء، وهذا ما تظهره بنود إعلان النيات مع التيار ثم بنود التفاهم، كلّها سيادية وتؤكد مطالبتها بالمؤسسات ومفهوم الدولة القوية، وهي معلنة ومنشورة ويمكن الاطلاع عليها بسهولة.

حتماً تفهّمت القيادة السعودية خطوة القوات اللبنانية آنذاك واقتنعت بمبرراتها المنطقيّة، لكنها لم تفهم التنازلات المتراكمة لحلفائها الآخرين أكان ترشيح أحد صقور 8 آذار رئيس تيار المردة سليمان فرنجية والشراكة المشبوهة مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وصولاً إلى ثورة 17 تشرين 2019.

لا تنظر السعودية إلى الأفرقاء اللبنانيين إلا بمعيار ولائهم للبنان، ومقاومتهم من أجل سيادته واستقلاله وحريته واستعادة مقوّمات الدولة والمؤسسات، والحرص على اتفاق الطائف والمحافظة على وجه لبنان العربي، وليس لدعم طائفة على حساب أخرى، وبالتالي كل فريق سياسي ينسجم مع الثوابت السعودية وقيمها، لا بد من أن يكون حليفاً طبيعياً لهذه الدولة الصديقة التي لطالما احترمت سيادة لبنان ولم تتدخل في حياته السياسية الا لدعم التوافق والسلام فيه، بل كان لها أياد بيضاء في مساعدته مالياً وازدهار اقتصاده في مراحل تاريخية عدة.

ثمة من لا يفهم السياسة السعودية حيال لبنان أو أراد أن يسبح خارج هذه الثوابت أو تساهل فيها وبحث عن غطاء خارجي آخر يلائمه، لكن المطلوب قراءة استراتيجية أكثر عمقاً، وما آلت اليه الأمور بعد انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، لأن الإدارة الجديدة لا يبدو أن لبنان في أولوياتها، وقد “جيّرت” مسألة التعاطي مع الأزمة اللبنانية إلى حلفائها الطبيعيين، أوروبياً فرنسا، وعربياً السعودية. من هنا يمكن فهم فشل رئيس تيار المستقبل سعد الحريري في تأليف حكومة أو حتى بدء مغامرته بالأساس من دون غطاء سعودي، بدليل أنه جال في دول عدة إلا السعودية، ويبدو أنها لم تكن متاحة له، وقد وجّهت القيادة السعودية مؤخراً رسالة واضحة للجميع من خلال إطلالة سفيرها وليد البخاري من معراب لعقد مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس القوات سمير جعجع تحت عنوان “تصدير الأمل”، وبالتالي لا يزال الانسجام تاماً بين المملكة والقوات أكثر من أي وقت مضى في إطار الاحترام المتبادل. حتماً الديبلوماسية السعودية تعرف أن الأكثرية النيابية في لبنان في يد طهران، وتحديداً عبر وكيلها “حزب الله”، وكل ما يفعله هو تأليف حكومات تخدم مشاريعه واستمرار الهيمنة على القرار اللبناني الحر، ولا خلاص، وفق الرؤية السعودية، إلا بانتخابات نيابية تنتج سلطة جديدة تُنهض لبنان من كبوته السياسية والاقتصادية، وهذا ما تقتنع به القوات وتردده باستمرار، وتمتنع عن المشاركة في حكومات لن تقوم بأية إصلاحات ومهما كان إسم رئيسها، بل تستمر هذه الحكومات في المحاصصة والخداع والتهريب والفساد وخدمة مشروع إيران.

قد تبدو القوات راديكالية في مواقفها، إلا أنها تتطابق مئة في المئة مع الرؤية السعودية الحازمة حيال لبنان ومن دون أي تنسيق مسبق، وتلتقي معهما البطريركية المارونية، من حيث نظرتها إلى الحياد والمطالبة بمؤتمر دولي لأجل لبنان، وقد بدا هذا الأمر واضحاً في لقاء البطريرك مار بشارة بطرس الراعي والبخاري.

إقرأ أيضاً:لبنان مهدد بخسارة شبابه بهجرة أبدية

لا شك في أن هناك تداخلاً سياسياً بين ما حصل في مطلع تموز في الفاتيكان ومساعي البابا فرنسيس للتوصل إلى حلول لوقف الانهيار في لبنان وتحريك عواصم القرار للتدخل ايجابياً، من هنا كان لقاء السفيرتين الأميركية والفرنسية في السعودية.

يعرف الفاتيكان وعواصم القرار، أهمية السعودية ودورها الأساسي في أي عملية مستقبلية لاستنهاض لبنان، فالسعودية تتطلع إلى قوى سياسية لبنانية صادقة لتتعاون معها في عملية الإنقاذ وحتماً القوات في طليعتها برؤيتها الراديكالية اللبنانية الوطنية الحرة، وعلى القوى السياسية الأخرى وخصوصاً السيادية، إذا أرادت أن تنقذ لبنان، أن تسعى إلى التوافق مجدداً. وقد أبدى أحد الديبلوماسيين السعوديين انزعاجه مؤخراً من تهجّم تيار المستقبل ورئيسه على القوات اللبنانية، وتساءل كيف يجد الحريري نفسه قريباً من الرئيس نبيه بري حليف “حزب الله” أكثر من قربه الطبيعي من القوات، ولاحظ أن الهجوم المستقبلي المكثّف على معراب بدأ منذ زيارة السفير السعودي إلى بكركي ومعراب.

لبنان “حاضر ناضر” في قلوب المسؤولين السعوديين عبر حرصهم على كل حبة تراب فيه، بل هناك فائض محبة للبنان، ويتوقون إلى استرجاع العافية إلى اقتصاده ومؤسساته وعودته إلى الحضن العربي.

شارك المقال