“بصراحة”… مع جبران باسيل؟

الدوري
الدوري

لطالما ربط الخطاب السياسي ببعض تجميل الحقائق من أجل اجتذاب الجمهور ورفع حظوظ الفوز. ولكن ماذا إن أصبح هذا التجميل، وبعبارات أقل “تجميلاً”، كذباً بحتاً؟ حينها سيغرق الكاذب في الحفرة التي حفرها للجمهور. وكيف يكشف الكذب؟ لقد قدمت إطلالة رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، نموذجاً ثرياً للغاية للتناقض بين لغة الكلام لفظاً وبين لغة الجسد والتحضير في الكواليس. وعلى الرغم من التحضيرات لإظهار جبران تارة بثوب العاقل وتارة بثوب الحمل… أتت النتيجة بإلباسه طوعاً ثوب الخوف والارتباك. فقال التحضير وقال الجسد ما لم يقله باسيل.

الفارس المنقذ

في الديكور الملحمي، يظهر جبران وقد اختيرت له خلفية من الزهور والتحف وبعض الكتب ولوحتان عملاقتان لحصانين كأنما يبعثان للاوعي عند المشاهد رسالة بأن الفارس المقدام سينطق بالحق وبأن لبنان سيجد الخلاص.. ومن قلب هذه الأسطورة، يستلم جبران الكلام وأول كلامه ما يختصر ساعتين طوالاً: “جلطات وأفاعي”..

هي فعلاً “جلطات” للمتابع الذي قد يسمع “حملاً” ويرى “أفاعي” تبخّ السمّ في كل محاولة إنقاذ. فها هو جسد “الفارس” في حالة من الارتباك التي تتضح حتى قبل أن يهمّ المذيع المرموق ماريو عبود، بقراءة مقدمته المدروسة، حيث ينهمك جبران بالتلفت يميناً ويساراً كأنه يبحث عن ضالته. حالة من التلفت التي تسهل ملاحظتها طوال الحلقة وصولاً للختام وما بعد ظهور الجينيريك، في سلوك يطرح الكثير من علامات التساؤل.

العينان الزائغتان عنصر آخر يعكس التناقض بين السلوك والتعبير. فعينا جبران تهربان غالباً من التواصل مع المذيع أو التوجه للكاميرا أي للجمهور، فتفضحان الكثير مما يحاول إخفاءه. ولا يخفى على أحد أن غياب التواصل المباشر دليل على لفظ ما هو مغاير للحقيقة أو لما يعرفه هذا الشخص. فتكاد عبارة “إن شاء الله نكون تعلمنا” تقول “ما تعلمنا شي” لا بل “وما رح نتعلم”.

الحقّ عالطقس!

وقد يلام لهيب الطقس على احمرار وجه جبران لدرجة الاختناق وتعرقه، ولكن هذه الحجة تدحضها بسهولة إطلالة ماريو المرتاح نسبياً. ولا يمكن أصلاً ملامة الحرارة على توتر باسيل الذي لا يعاني طبعاً على غرار الشعب اللبناني من مشكلة الاختناق نتيجة لانقطاع الكهرباء وضغط أصحاب المولدات. لذلك، يمكن ربط التفسير بالتوتر الناجم عن محاولة خداع الجمهور. وهذا ما تؤكده أيضاً سرعة التنفس تارة وصعوبة التنفس طوراً.

المناورات اللفظية

وأبدع جبران في المقابلة بالمناورات اللفظية، علما أنها لم تقع في صالحه، خصوصاً وأنها ترافقت مع حركات الوجه التي تريد إظهار نوع من الامتعاض لكنها عكست في الحقيقة، جرعة زائدة من التوتر… مع إعادة طرح أسئلة مثل: “مين قال هيك؟”، لدى ذكر الخليلين للكلام عن الحلحلة في الملف الحكومي. كما يطبع الارتباك الواضح المقابلة من خلال التأتأة والتلعثم في الكلام، وتحديداً عند ذكر الحكومة كما في الدقيقة السادسة على سبيل المثال، حيث يتلفّظ جبران بمجموعة من الكلمات دون أن ينجح بتركيب جملة مفيدة، على الرغم من المكافأة التي تحسب له على الجهد المبذول لاختيار المفردات. ومقابل الكلمات الفاضحة، يخطو جبران خطوة ناقصة بلحظات الصمت التي يحاول فيها استدراك كارثة كبرى كما عند سؤاله عن موقف حزب الله وتأثيره على السياسة الخارجية وعلاقة لبنان بدول الخليج العربي، وخصوصاً السعودية.

الحريري قصة ثانية

وإن نجح جبران من خلال بذلته الرسمية وكرسيه على الظهور بشكل السياسي، فشل بالحفاظ على تماسكه في معرض الكلام عن الرئيس سعد الحريري، حيث يضاف إلى تلعثمه.. “لـ.. لـ..للرئيس الحريري”، شعور بعدم الارتياح. لنتناول المثال الثالي. في الدقيقة 14 من المقابلة، تعلو وجه جبران تعابير القلق ويتشنج جسده عند ذكر الحريري فيستدرك ذلك بمحاولة إلهاء بتعديل طريقة جلوسه ليأخذ وضعية دفاعية. فهل يخاف من الحريري؟ لقد صوّر الحريري وكأنه قنبلة تدمير ذاتية، أطاحت برؤساء الحكومات المكلفين قبله، لا بل وبنفسه أيضاً على حد قوله مع اعتماد حقل معجمي عنيف: “بدهم يقتلوا فكرة قوة الرئيس” و”يصفيهم وحدة ورا التانية”. فهل يخاف باسيل من أن يطيح الحريري به؟ وبدا تأثير الحريري على جبران واضحاً من خلال تغير نبرة الخطاب الذي اتسم بالغضب وخرج عن أطر المناقشة العقلانية. ففي حالة من التأهب، يختار جبران استهداف وعي وذكاء الحريري والاستهزاء به والتجديف باتهامه بصيغة الجمع: “حرقوا دين دينه للبلد”.

ويبدو أن باسيل يعيش أصلاً حالة من عدم الرضا بشكل عام، حتى من الثنائي الشيعي، حيث اعترض على حقيبة المال، ثم إذ انتبه لحدة ما قاله عندما أعاد المذيع التعبير عنه بكلماته الخاصة، أصر على النفي: “أنا ما قلت هيك”. يضاف إلى ذلك، إفلاسه في تكرار العبارات نفسها والتي تفضح محاولة يائسة لاقناع الجمهور وربما نفسه بما يكرر على الدوام: “أنا عارف تماماً… خذها مني.. إنو يعني وإنو… وصدقني” ليصدق نفسه. وتتمدد حالة عدم الرضا لتشمل الإعلاميين، وبذلك ليس من شك بأنه يشبه عمه رئيس الجمهورية ميشال عون كثيراً. فقد اختار للرد على محاوره، عبارات ملؤها الاستهزاء مثل “عن جد؟ وبدك تتذاكى عليي؟ ع مهلك ع مهلك” والتساؤل بقهقهة واستهزاء: “أنا بدي استسلم؟”

لكنه صدق أيضاً..

ومع ذلك، صدق جبران أحياناً. نعم، لقد صدق حين أكد خلال المقابلة بأنه ليس أقوى رجل في العهد. لعله مخادع لكنه خاضع أيضا لحلفائه. وقد اعترف بذلك حين صور نفسه كضحية غير قادرة على تحقيق أي إنجازات، وحين صمت برهة ثم اختار المماطلة حين سأله ماريو “شو رح تعملوا في حال لم تتشكل حكومة سريعاً؟”. فغير الحديث ثم أضاعه بعبارات فضفاضة لا تفيد المشاهد، لأنه لا يمتلك إجابة أصلاً. فما كان من المذيع إلا أن أصر على الحصول على إجابة، فضاع الصالح بالطالح بعقدة جبران من الحريري.. ثم، لا إجابة واضحة، بل مماطلة وتهديد مكرر: “ما حدا يفكر في يحرقنا بلا ما نحرقه”.

إقرأ أيضاً: تريسي شمعون لـ”لبنان الكبير”: لا يحق لباسيل التحدث باسم المسيحيين

وقد صدق جبران حين ضاع في الدقيقة الثالثة بعد الساعة، في نشوة قصيرة لدى سؤاله عن طموحه الرئاسي، ليرتخي جسده قبل أن يستدرك ضرورة التوضيح متلعثماً. كيف لا وهو الذي أشعر المذيع بضرورة التوجه إليه بلقب “أستاذ” جبران وليس جبران باسيل. كيف لا واستطراده في شرح تأثير عبارة “فخامة الرئيس” يذكرنا بعبرة “الضفدع والبقرة”، في الدقيقة السادسة بعد الساعة، وهو يتكلم بهوس عن الموظف الذي “يسكر وينسى وظيفته لأن اثنين قالوله فخامة الرئيس”. فهل يذكركم بأحد؟

لكن الناس أذكى من هذه الحيل… وهذا ما تبرهنه تعليقاتهم على الانترنت على المبالغة بإظهار الفضيلة، مثل “من أين لك كرسي القداسة؟ ..وعم ترشح زيت..”.

شارك المقال