عقول مريضة!

رامي الريّس

الاستعصاء الحكومي هو استعصاء أخلاقي قبل أن يكون سياسيّاً. هذه هي المعادلة الأساسيّة التي تتحكم بمسار تأليف الحكومة في لبنان. التجربة ذاتها تتكرر منذ أشهر حتى اليوم. صراع مفتعل على الصلاحيّات والتسميات والحصص والمناصب بينما الناس تكاد تموت من الجوع. فقر مدقع وتدهور اقتصادي ومالي غير مسبوق ومع ذلك مفاوضات التأليف تسير وكأن شيئاً لا يحصل في المجتمع.

ليس التبديد المفتعل للأجواء التفاؤليّة الحذرة لتأليف سريع للحكومة مجرّد صدفة، بل هو ناتج عن سابق تصوّر وتصميم بهدف تعطيل عمليّة التأليف وربما إطالة أمد حكومة تصريف الأرواح (التي لا تكترث لتصريف الأعمال) حتى نهاية الولاية الرئاسيّة في تشرين الأول/ أكتوبر 2022. طبعاً، من غير المؤكد إذا كانت ستبقى ثمّة جمهوريّة حتى ذلك التاريخ. ليس مهماً. المهم الحفاظ على المكاسب والمواقع والصلاحيّات.

ثمّة عقول مريضة تقبض على مفاصل السلطة في لبنان تعتبر أن التاريخ بدأ معها وسوف ينتهي معها، وتظن أن سياساتها هي الوحيدة الكفيلة باستعادة أدوار لم تضع إلا في مخيلتها. معارك وهميّة فارغة مبنيّة على شعارات طنانة دون محتوى سياسي، شعبويّة موصوفة تعكس نفسها في اليوميّات السياسيّة اللبنانيّة القاتلة.

لطالما كان النظام اللبناني بطائفتيه ومذهبيته البشعة ولاّد أزمات ونزاعات وحروب، وبدل استخلاص الدروس والعبر، ها هي بعض القوى اللبنانيّة تمعن في تكريس هذا الوجه البشع وتسعى لاستثارة الشارع من خلال مقترحات واهية لم يعد لها مكانها على الأرض وبين الناس وفي المجتمع. عندما يضرب الفقر والعوز كل شرائح المجتمع، تصبح لعبة الطائفيّة المقيتة في مرتبة متأخرة من أولويّات المواطنين، وتصبح إستثارة الغرائز الرخيصة مجرّد لعبة مقززة وفظة ومثيرة للاشمئزاز.

إقرأ أيضاً: التوافق على تشكيل الحكومة “معجزة”

وإذا كانت طائفيّة النظام ومذهبيتّه قد حالت دون تكريس المساواة بين المواطنين، فإن غياب آليّات المحاسبة والمساءلة بسبب هذه المظلة الطائفيّة فاقم كل أشكال الفساد وعزّز ثقافته في الحياة الوطنيّة بشكل عام من المستوى السياسي والمؤسساتي إلى المستوى الإداري وصولاً إلى مفاصل مختلفة من الحياة المجتمعيّة. وترافق هذا المسار مع انحدار في سلم القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة بحيث صار الفساد هو النهج السائد ومخالفته هي الاستثناء.

المرحلة تتطلب رجال دولة يترفعون عن المطالب الفئويّة الخاصة، ويقدّمون نموذجاً مختلفاً واستثنائيّاً من العمل الوطني بما يتلاءم مع الحقبة المختلفة والاستثنائيّة التي تمر بها البلاد وهي تعيش انهيارات وانكسارات يوميّة في مختلف المجالات.

المرحلة تتطلب من المسؤولين إعطاء رسالة أمل إلى اللبنانيين الذين يملكون كل العزم والإرادة للصمود والعيش بكرامة ويرفضون التراجع إلى القرون الوسطى وسنوات التخلف والجهل. إنها المرحلة الأصعب في تاريخ لبنان المعاصر وتُدار، للأسف، من قبل المسؤولين الأسوأ في تاريخ لبنان المعاصر الذين يمسكون زمام السلطة والرئاسات والمواقع العليا.

شارك المقال