الموحدون الدروز عشية “الجمهورية الثالثة”

 د. هشام الأعور

عند المفاصل الاستراتيجية وعلى إثر الأزمات الكبرى في حياة الدول والشعوب يفرض التغيير الجذري نفسه ضرورة ملحة للخروج من عنق الأزمة، الأمر الذي يتلقفه أهل الفكر والسياسة والتشريع بإحداث تعديلات دستورية جوهرية تنتقل بتركيبة النظام السياسي من نظام حكم إلى آخر. هذا الوصف ينطبق على الواقع اللبناني الذي عاش في ظل “الجمهورية الأولى” منذ تاريخ الثالث والعشرين من شهر أيار العام 1926 إلى الواحد والعشرين من شهر ايلول العام 1990 تاريخ إقرار القانون الدستوري الذي تبنى مدرجات وثيقة الوفاق الوطني المتفق عليها في مدينة الطائف السعودية في خريف عام 1989 لوضع حد للنزاع الأهلي الذي عاشه اللبنانيون، وهكذا انتقل النظام السياسي اللبناني إلى مرحلة “الجمهورية الثانية” التي اصطلح على تسميتها بجمهورية دستور الطائف.

فبعد المئوية الأولى لاعلان “دولة لبنان الكبير” الذي أعلنه المفوض السامي الفرنسي في العام 1920 وكوطن نهائي لأبنائه بكافة انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية والعقائدية والسياسية، يترنح المشهد الداخلي أمام “نزعة” الانتقال إلى “الجمهورية الثالثة” بعد أن لمّح إلى ذلك عدد من الأطراف في الداخل والخارج، وكان أبرزهم وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان الذي حذر من إمكانية “زوال” الكيان اللبناني في حال لم تسرع الطبقة السياسية إلى إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المتردي. ورغم أن مسألة زوال الكيان اللبناني لا تعدو عن كونها من قبيل التحذير السياسي الذي لا يمكن ترجمته على أرض الواقع، حيث إن زوال الدول يعني زوال الشعوب والتاريخ والجغرافيا معاً، الأمر الذي لا يمكن حدوثه في بلد متجذر في أعماق التاريخ ومتأصل في ركب الحضارة، إلا أن هذا التحذير يطرح على بساط البحث مستقبل الحكم في لبنان وشكل نظامه السياسي البديل عن النظام الحالي.

الواضح تماماً أن فرقاء المنظومة الحاكمة ليسوا جديين في الانتقال إلى مرحلة “الجمهورية الثالثة” ولكل منه أسبابه الخاصة والأرجح أنهم عاجزون عن تنفيذ طروحاتهم العلنية كمسألة الحياد أو الفدرالية أو النظام الرئاسي وغيرها من المشاريع التي تتطلب بالضرورة إجراء التعديلات الدستورية اللازمة للانقلاب على دستور الطائف ، ولكنهم في الوقت نفسه يجمعون على وجود أزمة نظام تضع لبنان في كل مرة في عين عاصفة التحديات الكبيرة التي تترافق مع تصدع متزايد في هشاشة بنيته الوطنية والاجتماعية.

وهنا تختلف المقاربات بين فريق سياسي وآخر، وفقاً لمصالحه وتبعاً لمخاوفه، فمنهم من يصف دستور الطائف بالـ”مجحف” ويحصر تركيزه ببعض التعديلات التي تصب في مصلحة تعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية، ومنهم من يخشى فتح باب التعديلات الدستورية كي لا يتحول نظام الحكم من الثنائية المسيحية-الإسلامية إلى ثلاثية يشكل الشيعة الضلع الثالث فيها، ومنهم من يطالب بتطبيق “دستور الطائف” والإصلاحات كاملة قبل الحديث عن أي تعديل فيه كاستحداث مجلس الشيوخ وإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة وانتخاب مجلس نواب وفق أسس غير طائفية، ومراجعة نظام قانون الأحوال الشخصية وبين هذا وذاك يتمسك البعض الآخر وفي مقدمتهم مجموعة من “الثوار” بالمطالبة والمدافعة عن أي تعديل دستوري تفرضه ضرورات التطور الطبيعي لأنظمة الحكم.

لقد اثبتت التجارب التاريخية أن أي تعديل جوهري بالدستور اللبناني لا يكون إلا في المفاصل الكبرى حيث تتلاقى فيها الإرادة الدولية والإقليمية حول قناعة مشتركة عن عجز حقيقي لدى الطبقة الحاكمة في مسارات التقدم بالحياة السياسية والاجتماعية. ويبقى السؤال مطروحاً عن موقع طائفة الموحدين الدروز في ظل حجم وشكل التعديلات الجوهرية التي قد تطرأ على دستور الطائف وبالتالي على تركيبة نظامه السياسي؟

الحقيقة أن كل طائفة من الطوائف اللبنانية تنتظر ما ستؤول اليه التوزانات الإقليمية والدولية كي تستفيد منها على المستوى الداخلي، وعندها سيجدون انفسهم جميعاً وفق حسابات منطق الربح والخسارة الطائفية والشعبوية منقسمين بين متسلق على قطار التعديل الدستوري أو معارض بشدة وربما بعنف لأي مساس بما استقرت عليه الأمور، أما طائفة الموحدين الدروز، وهي الطرف السياسي التي تعيش وضعاً تراجعياً داخل النظام السياسي اللبناني وعلى مستوى حجم تمثيل الدروز في الحكومة ونوعية الحقائب التي تسند إليهم وضمور حضورهم في الإدارات العامة، فتراها في خطاباتها غير المعلنة مستعجلة لولوج باب “الجمهورية الثالثة” دستورياً، ليس لأنها عاجزة أمام تطاحن “الكبار” على الحقائب “السيادية” والامتيازات في السلطة، أو لاستفزاز أي مكون وطني آخر؛ بل لحسابات دقيقة تأخذ بالاعتبار الدور التاريخي للدروز كطائفة كيانية ساهمت إلى حد كبير في تأسيس دولة لبنان الكبير. فقبل دستور “الطائف” كانت طائفة الموحدين الدروز تتبوّأ حقائب سيادية، والجميع يتذكّر دور المير مجيد إرسلان عندما كان وزيراً للدفاع أثناء معركة بلدة المالكيّة التي تقع في جبال الجليل الأعلى بين الجيش اللبناني والجيش “الإسرائيلي” العام 1948، كذلك فإن مؤسس الحزب “الإشتراكي” كمال جنبلاط شغل حقائب سيادية مرات عدّة مثل وزارة الداخلية التي تبوأها أيضا الاستاذ بشير الأعور إضافة إلى توليه أيضاً وزارة العدل والأشغال والصحة.

باتت حصة الدروز بعد “الطائف” تقتصر على 3 وزارات إذا كانت حكومة ثلاثينية، ووزيرين إذا كانت حكومة من 24 وزيراً، ووزير واحد إذا كانت حكومة من 14 وزيراً وما دون.

في ضوء ذلك، أصبحت العيوب الكثيرة التي تشوب النظام اللبناني أكثر وضوحاً. مع ذلك، فإن ما يلفت النظر في السياق السياسي الدولي والإقليمي الحالي، هو أن بعض المحللين وصنّاع القرار باتوا على استعداد للنظر في النظام أو التجربة اللبنانية من زاوية جديدة، بسبب فشل كل التجارب الهادفة إلى خلق دولة مركزية قوية تحافظ على توزيع السلطة على أساس التنوع والتعددية بعيداً عن سياسة الغبن والإقصاء أو التهميش.

هناك شبه إجماع داخلي على شيخوخة النظام اللبناني، وشبه الاتفاق على تراجع حيويته وعقمه، فإن تبلور “الجمهورية الثالثة” يتأرجح بين تناقضات داخلية ومخاض خارجي لم تظهر صورة نتائجها النهائية بعد؛ فعلى المستوى المحلي يعلق اللبنانيون أملاً بأن تكون المبادرة الفرنسية، مدخلاً سلساً “للجمهورية الثالثة” التي ربما تتبدى طلائعها بشكل واضح على أنقاض “الفراغ الرئاسي” الذي يتوقع أن يلي عهد الرئيس ميشال عون؛ كما أن هذه المبادرة بما تتضمه من مكونات قد تستطيع ببث بعض الروح في جسد الاقتصاد اللبناني المتهالك، الأمر الذي يترافق مع تغيير نوعي في جسم الوحدة الوطنية، ما سيفرض، بقوة الأمر الواقع، تغييراً جوهرياً في أدوات ومفردات اللعبة السياسية، ويقودنا إلى نظام سياسي جديد يحمل في مضامينه فضائل الجمهورية الموعودة.

إقرأ ايضاً:

أما على المستوى الإقليمي والدولي فإن اللحظة الإقليمية لرسم معالم “الجمهورية الثالثة” فتتأرجح بين واقع قصير المدى يفرض نفسه على الأرض من خلال “الانكفاء المدروس” للدور العربي وتحديداً السعودي أمام الدور المتنامي للمحور الروسي-الإيراني من جهة، وأبعاد استراتيجية طويلة المدى تفرضها السياسات الغربية-الإسرائيلية من جهة أخرى، في حين تبقى المحاولات الأردوغانية الطامحة لتأدية دور رئيسي في لبنان من ضمن الصراع السني – السني لتزعم المنطقة العربية.

خلاصة القول، إنه في ظل مشروع “صفقة القرن” الأميركية، وما أسفر عنه من توالي إعلانات التطبيع العربي-الإسرائيلي، وفي ظل التقارب السعودي – الايراني وبانتظار تحرك ملف المفاوضات النووية الأميركية – الإيرانية، ومع انطلاق عجلة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني برضا ودعم وطني شبه جامع ولافت، ومع تنامي رغبات السيطرة على النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ومع دور أكبر متوقع ومأمول للوعي الشعبي اللبناني الذي تغذيه تنامي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، فإن بوادر الدخول إلى “الجمهورية الثالثة” صارت ضرورية وربما شبه حتمية، والتي تأخذ بالاعتبار إعادة تنظيم توزيع الصلاحيات بين المراكز واستحداث المؤسسات الدستورية وفي طليعتها مجلس الشيوخ اللبناني واسناد رئاسته للدروز على نحو يتجاوز الغبن الذي يطاول بعض المكونات الاجتماعية وإعادة تصحيح التوازن بين الأجنحة المختلفة التي تشكل النواة الداخلية للنظام اللبناني، ولا تتجاهل الهواجس الوطنية المتراكمة، فتعيد توزيع الصلاحيات بين المراكز الدستورية مع إقرار بفكرة المداورة في مراكز القرار بين مكونات المجتمع اللبناني، على أمل إجراء انتخابات حرة ونزيهة لا ترتكز على القيد الطائفي، وذلك تأسيساً لانطلاقة “جمهورية ثالثة” تكون بدورها انتقالية لـ”جمهورية رابعة” يصنعها اللبنانيون بأنفسهم ولأنفسهم وتقوم على أساس الكفاءات والخبرة، وأن تكون سمة نظام الحكم المنتظر فيها المواطنة الحقيقية.

شارك المقال