“مؤامرة” خلدة في العقل الممانع

علي نون
علي نون

السيرة المألوفة عند إعلام الممانعة لم يطرأ عليها أي جديد، ولا يبدو أن ذلك سيحصل طالما أن القياس المتبع هو ذاته لم يتغير ولم يتضعضع ولا يعرف أصحابه شيئًا من أشياء التواضع أو الاعتذار أو الايحاء بقصة جميلة اسمها النقد الذاتي، أو الاعتراف بالخطأ، أيًا تكن طبيعته.

الجماعة منزّهة عن الخطأ! وهذا ليس من شيمها ولا من عاداتها باعتبار أن البشر العاديين والطبيعيين لا يجوز وضعهم في خانة واحدة مع أنصاف الآلهة! ولا مع أصحاب الرسالات العظمى والمشاريع التاريخية!

في الأساسية والفرعية، والكبيرة والصغيرة، يذهب الممانعون في السياسة والإعلام والتبليغ والأداء إلى اعتماد مبدأ مرصوص ولا يحتمل أي نسمة هواء: الخطأ من شغل غيرنا والصحّ من شغلنا وحدنا! والوسط الذهبي بين هذين الضدّين غير موجود ولا مستساغ… كأن يقال مثلاً: “لو كنت أعلم” بما يعنيه ذلك من اعتراف متواضع بمسؤولية ما، أو بالرغبة المكتومة باعتذار ما، أو بغير ذلك من أشياء الطبيعة البشرية في أصلها وفصلها.

في حرب العام ٢٠٠٦، ثم في كارثة ٧ و ١١ أيار ٢٠٠٨، وما بعد ذلك وقبله وصولاً إلى الأمس القريب في حوادث خلدة المؤسفة والمؤلمة، كانت المسؤولية ولا تزال ترمى على الآخرين، شياطين التآمر مع إسرائيل وأميركا في حرب تموز، وفي حوادث أيار في بيروت والجبل، و”العصابات” المرتبطة بسفارات وسفراء في خلدة الحاملين على أكتافهم أجندة تآمرية على “المقاومة” والراغبين بإشغالها عن مهماتها الكبرى الخاصة بمقارعة الصهاينة وصولاً إلى تحرير القدس منهم! أما كيف يمكن ذلك طالما أن المقاومة راحت في كل اتجاه على مدى السنوات الماضية الاّ اتجاه القدس، فذلك ما لا يمكن لبشري عادي أن يلمّ بأسراره الكبيرة، ولا بالحِكم المقدّسة المنسلّة من تلابيبه.

تحصل حوادث يومية في لبنان وتزداد وتيرتها راهناً تبعاً لتدهور الحال عموماً وبطريقة غير مسبوقة. ويحصل أن تأخذ بعض هذه الحوادث أبعاداً كثيرة منها البعد المذهبي المغلّف بالانتماء السياسي، تماماً مثل الحادث المتسلسل الذي حصل في خلدة والذي أودى بضحايا كثر رحمهم الله جميعاً… لكن إعلام الممانعة وبعض سياسييها الفطاحل ذهبوا إلى البعيد في التفسير والتأويل والاتهام قاطعين الأمر من سياقاته كلها ومن بداياته الاولى ومن الجو المشحون الذي أوصل البلد وأهله إلى هذا الدرك من التردّي في كل شأن من شؤونه ونواحيه. ذهبوا إلى اتهام غيرهم بالمسؤولية عن كل شيء، ناسين أو متناسين أن الضخّ المذهبي هم أربابه وليس غيرهم، وأن الشحن السياسي المستدام ضد الغير بما فيه من تخوين وشيطنة ودعوشة وتكفير، قد فعل فعله عند ذلك الغير وأنتج حالة احتقان مكينة وصلبة، وزاد على ما تركته أصلاً جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري من آثار وتداعيات والتهابات، ثم ما تلاها من مسالك دموية وسياسية تُظهر العداء بوضوح وسفور وتضع الحق كلّه في ناحية والشر كلّه في ناحية… الغير!

التفاصيل الخاصة بكارثة خلدة كثيرة وملفتة، وكل من عليها يعرفها أو صار يعرفها، وهي في جملتها وخلاصاتها تدلّ على فعل وردّة فعل، وعلى إرفاق ذلك من جهة أهل الممانعة، بنفس استقوائي واضح وتبخيس بالغير ومشاعره وانتماءاته ومذهبه ورأيه السياسي وضحاياه… ثم بعدم أخذ الحادث الأول قبل عام من اليوم على محمل الجدّ الكافي والموصل إلى معالجة قانونية تبعد عامل الثأر من الحسبان… لم يحصل ذلك في حينه فحصلت الكارثة بالأمس!

امّا كيف وصل إعلام الممانعة إلى تحميل السفير السعودي وليد البخاري والسفيرة الأميركية دورسي شيا مسؤولية ما حصل فذلك بدوره جزء من الأسرار الكبرى التي لا يفكّ طلاسمها إلا أرباب هذه الممانعة. المهم عند هؤلاء هو أن يُردّ كل خطأً ذاتي إلى الغير، ووضعه في سياق التآمر الأبدي على “المقاومة” وجمهورها… و”الخطأ” المقصود هنا هو اشتمال الواقعة في خلدة على شبهة خسارة بشرية إضافية نتيجة عدم تدارك الأمر من بداياته، ولأن الجماعة الممانعة لا تخطئ! ولا تهزم بل هي والانتصار توأمان لا ينفصمان، كان من الضروري تكبير الحجر واتهام السعوديين والأميركيين معاً بالوقوف وراء “مؤامرة” خلدة!

إقرأ أيضاً: بالفيديو – الشيخ عمر غصن يسلم نفسه لمخابرات الجيش

وذلك إن دلّ على شيء فعلى عمق المأزق الذي وصل إليه الممانعون وأوصلوا لبنان معهم إليه، وعلى تعمّق الشعور العام بأن هؤلاء ما تسيدّوا في ناحية الاّ وخرّبوها، وما توغّلوا في بلد إلاّ وشلّعوه وأفقروه وحطّموا بنيانه بشراً وحجراً.

بدلاً من أن تتواضع قيادة الممانعة وتذهب إلى خطاب توفيقي سلس وهادئ، وتبحث عن أفضل السبل الممكنة لوأد فتنة كريهة، وتعمل جدّياً وفعلياً على تدارك الأمر وتجنّب الأسوأ، وبدلاً من أن تساعد الناس على مواجهة هذا الدهر ونوائبه والتخفيف من حدّة عذاباتها اليومية المتأتية من مصائب الانهيارات في كل شأن حياتي خدماتي، وبدلاً من ذلك وغيره كثير، تذهب تلك القيادة إلى طبعها الأول: تحمّل الغير مسؤولية تقصيرها وارتكاباتها، وتُبقي “المؤامرة ” شمّاعة تعّلق عليها كل مآزقها… ثم تفترض أن في ذلك جواباً يختصر كل سؤال.

شارك المقال