رجال الدين في لبنان إن حكوا

المحرر السياسي

لا تخلو كلمة أو عظة أو كلمة في مناسبة دينية من مواقف سياسية عالية السقف لرجال الدين في لبنان، فخلال 24 ساعة أطلقت مواقف عالية السقف من كل من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان ومتروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة والأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله.

لم يغب موضوع تشكيل الحكومة عن أي منها، أضف إلى الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، التي تنهار بسرعة فائقة ولا سبيل لإيقافها سوى التنازلات من قبل الطبقة السياسية التي تمعن قهراً وظلماً بالبلاد والعباد.

دريان

وكان الاحتفال برأس السنة الهجرية مناسبة أطل فيها المفتي دريان برسالة ضمنها جملة مواقف واصفاً وضع الشعب اللبناني بالمنكوب والذي تشبه حالته أحوال القلة من المسلمين بمكة، إبان العام 622 للميلاد، عام الهجرة إلى يثرب، وقد أرغمهم بنو قومهم على الاعتزال في الشِّعب، وهو مضيق بين جبلين بجوار مكة، بدون ماء ولا غذاء، حتى اضطروا لأكل ورق الشجر، آثروا الحصار فالهجرة على العودة إلى أوضاعهم السابقة البائسة.

فعلاً هذه هي أحوال اللبنانيين اليوم كما قال: “محاصرون في شعبة المحروقات والدواء والغذاء الوباء والفقر وفي شعاب لا تكاد تُحصى أهمها الهجرة، وأولها أنه ممنوع علينا أن تكون عندنا حكومة، يمكن أن تدير شؤوننا، وتخرجنا من الندرة، ومن أهوال الجوع والفقدان، أو جهة يمكن لنا التوجه إليها بالسؤال والمحاسبة أو حتى بالشكوى”. وسأل من الذين يحاصروننا في لبنان اليوم، ومن الذين يريدوننا أن نهاجر ولا نعود؟

وفي أصدق تعبير عن كيفية تسهيل أمور الناس والبلد توجه الى السياسيين على الرغم من أنه لم يسمّهم: “عندما يتوجه المرء لربه مطالباً بالتغيير، فهو إنما يسأل الله عز وجل، أن يعينه هو على التغيير: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. علينا أن نغير أولئك الذين يصمّون آذانهم وضمائرهم وعيونهم عن بؤس الشعب اللبناني، ومشكلاته التي ازدادت استعصاء في عهدهم الميمون. أما كفاكم تلهياً بخلافاتكم، وتنازعاً على مكتسباتكم وحصصكم؟

الراعي

هذا هو العهد الذي خاطبه كذلك البطريرك الراعي في عظته بالقول: “لا يحقّ لأيّ مسؤول أن يتذرّع بصلاحيّاته ليؤخّر تأليف الحكومة أو لأيّ آخر بفائض صلاحيّات لحجب الحكومة. هذا الواقع المرّ والموجع لم يمسّ بعد قلوب المسؤولين وضمائرهم. فإنّهم لم يغيّروا شيئًا في سلوكهم لا بعدَ مؤتمر باريس، ولا بعدَ ذكرى 4 آب، ولا بعد تسخينِ جبهةِ الجنوب في هذه الأيّام لحرفِ الأنظارِ عن قدسيّة ووهج قدّاس شهداء وضحايا إنفجار المرفأ على أرضه، وقد استقطب أنظار العالم كلّه ومسّهم في أعماقهم”.

وسأل أيضاً المسؤولين والسياسيّين: “كيف ستُقنعون الشعبَ أنّكم أهلٌ لقيادتِه نحو الخلاص وكلُّ يومٍ تزّجونه في أزمةٍ جديدة؟ بل كيف ستُقنعون أنفسَكم بأنّكم كنتم على مستوى المسؤوليّةِ والآمال؟ هل فيكم شيء من الإنسانيّة لتشعروا مع الناس ببؤسهم؟”.

أمّا السؤال الأكبر والأساس فهو: لماذا لا يتمّ تأليف حكومة بعد كلّ ذلك؟

أهو الخلافِ على توزيعِ الحقائبِ الوزاريّةِ؟ فهذا عيب في الظروفِ العادية، ومخزٍ في الظروفِ المأسوّية التي يعيشها اللبنانيّون، وأنتم لم تشعروا بها إلى الآن؟ تَتصارعون على الوزارات، لكنّكم تَتصارعون على ما لا تَملِكون لأنَّها ملك الشعب. فأبحَثوا بالأحرى عن وزراءَ يَليقون بالوزاراتِ لا عن وزاراتٍ تؤمِّنُ مصالحَكم. داعياً الى تحرك فوري، وعملية إنقاذ ضرورية، عبر تشكيل حكومة تتولى الحوار مع المجتمع الدولي لمساعدة لبنان.

شجب البطريرك الراعي توتّر حالة الأمن في الجنوب وتَسخينَ الأجواءِ في المناطق الحدوديّة انطلاقًا من القرى السكنيّةِ ومحيطها، مشيراً إلى أن أهله سئموا “والحق معهم” الحرب والقتل والتهجير والدمار، وإقدام فريقٍ على تقريرِ السلمِ والحربِ خارجَ قرارِ الشرعيّةِ والقرارِ الوطني.

عودة

أما المتروبوليت عودة فحذر من الخطر على مستقبل لبنان، حيث يتم تقويض القطاعات النخبوية في لبنان، وخصوصًا في مجالي التربية والصحة. وسأل بدوره: “هلا فهم مسؤولو بلدنا، أن من لم يقضوا عليهم بواسطة التفجير سيقضون عليهم بواسطة التهجير”. وتماهى مع المفتي دريان بالسؤال حول أسباب الهجرة، ما الغاية من إفراغ البلد من شبابه ومثقفيه وخيرة ثروته البشرية. وقال: “مسؤولونا مرتاحون على عروشهم، يأخذون وقتهم في اتخاذ القرارات المصيرية التي كان يجب أن تتخذ منذ سنة” مضيفاً أن الأساس هو العمل المجدي والفعال لا الشعارات والوعود والاستعراضات. الوقت لم يعد وقت كلام بل وقت أفعال. لكن أردف أن المماطلة سيدة الموقف منذ انفجار 4 آب الكارثي، ولم نشهد إلا تعقيدات وتعطيلاً في بلاد منكوبة.

نصر الله

كل هذه المطالب تتوقف عند ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في الذكرى الخامسة عشرة للانتصار في تموز 2006، والذي بيده قرار الحرب والسلم وتشكيل الحكومة، حيث اعتبر أن بعض الفئات في لبنان تساعد العدو من حيث تعلم أو لا تعلم على تحقيق هدفه بنزع سلاح المقاومة، مبرراً أن الهدف مما حصل في الجنوب من إطلاق للصواريخ رسالة للعدو الإسرائيلي وقتل جندي إسرائيلي، لكن لم تتوفر الظروف لها، وأن بعض الأعمال العدوانية عامل الزمن فيها جوهري والتأخر في الرد عليها يفقد الرد قيمته. وقال لدينا الشجاعة لتحمل المسؤولية وهذا الرد بجهارة وبوضوح قصفتم أرضاً مفتوحة ونحن قصفنا أرضاً مفتوحة.

وفي قضية انفجار مرفأ بيروت شدد على أن التحقيق القضائي في القضية مسيّس ويخضع للاستنسابية. وعن مسألة تشكيل الحكومة، قال السيد نصرالله: ننتظر نتائج المحادثات بين الرئيس عون والرئيس المكلف بشأن تشكيل الحكومة ولن نستبق الأمور.

ليس لافتاً كل هذه المواقف المتقاربة وعالية السقف في لبنان، فهذا هو الواقع في الخطاب الديني المتلطي بمظلة سياسية، وكيفية تأثره وتأثيره في مختلف الأزمات السياسية والاجتماعية، وكذلك عند كل إستحقاق. وبدل أن تكون هداية الناس إلى الطريق الصحيح، ينشغل رجال الدين في لبنان بالسياسة وتفرد مساحة قليلة للحديث في الدين وشجونه في خطبهم وعظاتهم وكلماتهم. وبالرغم من رسائلهم المهمة تجاه أهل السلطة إلا أنه لا سميع أو مجيب.

وبحسب الخبراء في هذا المجال، فإن حضور الخطاب الاتهامي بشكل بارز، إضافة الى المظلومية الطوائفية والتدخل في المسارات السياسية في الخطب والعظات والكلمات الدينية، يؤثر على المجتمع بشكل سلبي لا سيما أن بعض الطوائف تستمد قوتها وشرعيتها من العصبية الدينية.

كل ذلك يحدث في لبنان على وقع الشعارات التي تدعو إلى التعايش والحوار بين الأديان والتنوع والعيش المشترك، فيما اللبنانيون يتنازعون على الدين والطوائف والتعصب للهويات الدينية، وهذا ما يبدو جلياً على مواقع التواصل الاجتماعي وفي فئة الشباب بالتحديد، من معارك سياسية كلامية يستفيد منها الزعماء عبر إسقاط الطابع الطائفي على معاركهم التي يبررون فيها مصالحهم ويسيرون بالوطن والمواطن نحو المجهول. في ظل تأخير مقصود في تشكيل الحكومة من قبل التيار العوني وحلفائه غير الآبهين بما وصلت إليه البلاد من خراب متلهين بمصالحهم الآنية والمستقبلية.

ويبقى التذكير بنص الفقرة الأخيرة من الدستور والتي تتعلق بحفظ التوازن بين الطوائف وتشير إلى أنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، من دون تحديد ماهية هذا الميثاق بشكل واضح.

شارك المقال