الدنيا… وجوه وأعتاب

علي نون
علي نون

لا تدخل هذه السردية في باب السياسة ولا الاقتصاد ولا في الحوكمة وضروبها، لا الرشيدة ولا البلهاء، إنما في باب المماحكة المأنوسة المتأتية عن ضمور القدرة على تفسير وتعليل الكوارث عندما تكثر وتتكثف، مثلما هو حاصل عندنا في هذه الأيام.

وعليه يمكن الزعم بأن الثنائي عون وباسيل ما دخل على أخضر ريّان إلاّ وجعله يباباً يباساً، وما دخل على عمران إلاّ وأحاله خراباً ودماراً، وما دخل على ينبوع مياه إلاّ ونشّفه من أصله وباطنه وجذوره، وما تصّدى لمشكلة الاّ وحولها كارثة، وما تصدى لكارثة إلاّ وصارت كوارث وهذه بدورها تحيل البشر والحجر إلى منظومات يأس لها أول وليس لها آخر.

مثل الثقّالة التي توضع فوق جسم طافح لتغرقه… وهذا حال الظاهرة المسماة باسيل أكثر من معلمه وملهمه عون، مع أن الاثنين خُلقا لبعض وصار يستحيل تصوّر أحدهما من دون الآخر… لكن الفارق بينهما ليس العمر وحده بل أيضاً اختلاف الزمن وأحواله: عون جاء في زمن المحل والحرب والدمار، فزاد على ذلك كله وطاف جناه فوق البلد وأهله أضعاف أضعاف ما كان عليه، فيما الثاني جاء في زمن معقول، بعد الحرب وبلاياها فاحترف النبش بالقبور واللعب مع الأفاعي واستحضار الفتن وامتهان التخريب والتدمير بمنهجية وإصرار ثابتين حتى صار الماضي الذي كان مع عمّه مطلباً ورجاءً!

من بداياته، إلى أواخره كان عون فأل نحس أينما حلَ: كان ملازماً في الجيش في ثكنة صيدا عام ١٩٧٥، فقُتِل معروف سعد وانطلقت شرارة الحرب حتى وصلت في نيسان إلى عين الرمانة وفجّرت البلد بما فيه. ثم تدرّج في الجيش واشتغل مع الكتائب وقائدها العسكري بشير الجميل قبل الاجتياح الإسرائيلي ثم مع ذلك الاجتياح، فوقعت الكارثة في ذروة الوصول، وحلّت المصيبة في لحظة التتويج. ثم عُيّن قائدًا للجيش فصار جيوشاً وعصائب أكثر مما كان عليه! وقبلها بقليل كان قائداً لجبهة سوق الغرب فانتقلت حدود تلك الجبهة إلى حيطان قصر بعبدا! وكان “رئيساً” لحكومة عسكرية مهمتها تأمين انتخاب خلف للرئيس أمين الجميل فطارت الجمهورية ولم تستقر إلا في الطائف! كانت قبله المنطقة الشرقية تتمتع باستقرار معقول قياساً إلى نظيرتها الغربية فصارت أسوأ! تحالف مع صدام حسين فذهب ذاك إلى دمار ذاتي الصنع في ذروة إعلانه الانتصار في الحرب على إيران، واستمر في الانحدار حتى التلاشي! ذهب إلى عرض خدماته وأعطياته إلى حافظ الأسد فأصيب إصابات عائلية وشخصية لم يشفَ منها. ذهب إلى بشار الأسد فأحاله إلى ذكرى أو يكاد وطارت سوريا ولن تعود في مستقبل منظور! تحالف مع “حزب الله” فتحول هذا من انشودة في طول العالم العربي وعرضه إلى لعنة أكيدة في طول العالم العربي وعرضه! ثم جاء إلى رئاسة الجمهورية فطارت بمن فيها وعليها، ومرّت وتمرّ معه وفي “رعايته ” بما لم تمر ّ به إلاّ ايام المجاعة الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى.

خليفته وصهره بدأ من الآخر. أكمل ما كان بدأ وانتهى مع عون، وتصرّف وكأن الحرب لم تنته في تشرين الأول عام ١٩٩٠، بل راح إلى استئنافها بطرق اخرى، ولا يزال يفعل ذلك بهمّة ونشاط ويمنهج مسيرته وفق نظرية تدمير البنيان بحجة إعادة تعميره من اساساته.

لكن بعيدا عن ذلك العبث التدميري، فهو في قياسات الوجوه والاعتاب نسخة مثلى عن عمّه. دخل إلى العائلة ففرقها. ودخل إلى التيار فمزقه. ودخل إلى وزارة الطاقة فأعدمها بكل فروعها. ودخل إلى وزارة الخارجية فطارت كل علاقات لبنان التاريخية عربياً وعالمياً. ادعى إصلاحاً فخرّب ما كان قد تصلّح بعد الحرب وعاد إلى أسوأ مما كان عليه أيام الحرب. دخل إلى قصر بعبدا مع عمه فطارت البركة من بيوت الكثرة الكاسحة من اللبنانيين… بل يكاد الكيان برمّته يندثر بعد أن تدمّر.

…كان والدي رحمه الله دستورياً مؤيدا لآل سعيد في منطقة جبيل وظلّ كذلك حتى وفاته، لكنه كان يقول لي دائماً إن أيام الرئيس الراحل كميل شمعون كانت أيام عزّ وبركة وخيرات وفيرات، وبرغم السياسات الانقسامية الخطيرة التي اعتمدها فقد أحبه اللبنانيون بالإجمال وكان وجه خير عليهم، معه صار لبنان مهرجاناً مفتوحاً للفرح والفن والموسيقى ومهرجانات الصيف وحفلات الشتاء، وفي عهده صار البلد محجة للعرب والأجانب ومقصداً للتعليم والطبابة والسياحة والخدمات المصرفية، احبه اللبنانيون برغم انقساماتهم السياسية والحزبية والدينية الكثيرة، لكن إزاء المخلوق الموجود اليوم فإن الاجماع على المشاعر السلبية تجاهه هو الأمر الأكثر توحيدًا للبنانيين هذه الأيام… حتى للذين يصطفون معه سياسياً وحزبياً.

وصدق حقاً من قال: إن الدنيا وجوه وأعتاب!

شارك المقال