في بروكسل اليوم يكرم لبنان أو يهان…
وصل وزير الخارجية عبد الله بو حبيب صباحاً إلى العاصمة البلجيكية بروكسل على رأس وفد ممثلاً الدولة اللبنانية والحكومة وحاملاً توصية مجلس النواب حول ملف النزوح.
وقال بو حبيب لموقع “لبنان الكبير”: “الحكومة اللبنانية ماضية في تنفيذ خطتها بكامل أجهزتها لتحقيق الأهداف التي وضعها مجلس النواب في توصيته وعلى كل اللبنانيين وخصوصاً المسؤولون مساعدتها، ولا يعارضوا أو يعرقلوا أو يتدخلوا لطلب وساطة لبعض السوريين المخالفين في أوراقهم القانونية وإقاماتهم وهذا يحصل كثيرا الآن”.
وأكد بو حبيب أن واحدة من الأهداف الاستراتيجية التي يحملها وفد لبنان الى بروكسل هي فصل السياسة عن الملف وإقناع الاتحاد الأوروبي بوجود المناطق الآمنة، فكل الأراضي السورية تحت سيطرة الحكومة أصبحت آمنة، ويجب دعم عودتهم وتمويلهم داخل سوريا خصوصاً أنه مؤتمر تمويل وليس رسم سياسات فقط، والمفوضية ترتبط سياستها بسياسة الدول المانحة،Qui donne ordonne، معوّلاً على بداية التغيير في الموقف الفرنسي بانتظار ألمانيا وبقية الدول، “الملف هو خطر وجودي ولن نكل أو نمل حتى تحقيق الأهداف”.
وفي جعبة وفد الحكومة دراسة مفصلة أعدها مستشار الرئيس نجيب ميقاتي الدكتور سمير الضاهر بالتنسيق مع فريق ميقاتي وحصل عليها موقع “لبنان الكبير”، تتضمن تفصيلاً للملف ومقاربته بصورة منطقية وبالأرقام واقتراحات حل، تحت عنوان “لمقاربة جديدة لملف النازحين السوريين بهدف عودتهم إلى بلدهم والحفاظ على الهوية اللبنانية”.
وتنطلق الدراسة من أن نسبة النازحين في لبنان إلى المواطنين المقيمين تعدت الـ ٥٠٪، ما يعني حتماً أنه في غضون جيل من الزمن، نظراً الى الهجرة المطردة لشباب لبنان إلى الخارج، سيتحوّل “التفاعل المثمر بين الحضارات” والمفيد لبلدي المنشأ والمهجر، من اندماج للنازحين في المجتمع المضيف إلى انصهار للأقلية اللبنانية في بحر المقيمين السوريين العارم حيث معدل الولادات يتعدّى معدل ولادات اللبنانيين بهامشٍ لا يقل عن ٢٠٪، ما ينذر بخطر تذويب للهوية الوطنية لا يمكن التغاضي عنه ولا القبول به، بل من الواجب العمل على تداركه.
وتعتمد الدراسة على تحقيق إجماع وطني لمعالجة الملف الحرج، بل الوجودي، للنازحين السوريين في لبنان، لتدعو السلطات اللبنانية إلى إعادة تقييم سياسة اللامبالاة غير المجدية التي اتّبعت في إدارة ملف الهجرة وهي في الواقع سياسة يواكبها “المجتمع الدولي” ويموّلها خدمةً لمصالحه القومية وأهدافه السياسية وتِبعاً لقوانينه ومعاييره ومبادئه مهما كانت سامية. والمهم في ذلك هو أن يتحوّل نهج لبنان في ملف النازحين من هدف يرمي إلى زيادة المساعدات الخارجية التي يمكن الحصول عليها إلى سياسة يكون هدفها الأوّل، العودة النهائية لهم إلى ديارهم، بموازاة العمل لإعادة توطين بعضهم في بلدان لجوء أخرى.
وتصف الورقة اللبنانية عبء النزوح بـ “العبء الذي لا مثيل له، وذي عواقب خطيرة” وفقاً للآتي:
أولاً: لبنان، يتحمل عبئاً غير مسبوق، يعتبر، مقارنة بصغر مساحته وعدد سكّانه، الأول في العالم بين البلدان التي يتواجد فيها نازحون.
فإضافةً الى ما قد يكون لذلك من تداعيات على الأمن القومي والسلامة العامة، إنّ لهذا الوجود الكثيف آثاراً يجب إحصاؤها وتقييمها بصورة دقيقة على اقتصاد ركيزته الخدمات ما يجعله عرضة لأي خلل بالاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي. فقد كان لتكاليفها المباشرة وغير المباشرة على مدى عقد ونيف وقع ضاغط على الاقتصاد الوطني والمالية العامة، وشكل اختباراً لطاقة لبنان على حمل هذا العبء إذ أضعف قدرةَ الدولة، وهي غير كافية أصلاً، لتلبية الطلب المتزايد على البنى التحتية المتهالكة في قطاعات الطاقة والنقل والمواصلات والمياه والصرف الصحي ومعالجة النفايات الصلبة، ناهيك عن الخدمات في مجالات الصحة والتعليم وإنفاذ القانون وحفظ الأمن.
ثانياً: الأرقام والواقع الديموغرافي، هناك كثافة سكّانية عالية وخطر تذويب للهوية الوطنية. إذ تُفيد المديرية العامة للأمن العام، عن وجود مليونين وثمانين ألف (٢,٠٨٠,٠٠٠) مواطن سوري في لبنان، أي ما يزيد عن نصف عدد المواطنين المقيمين الذي تدنى حالياً إلى ما دون الأربعة ملايين. وتجدر الاشارة الى أنه منذ بدء موجة النزوح، تم تسجيل آلاف الولادات سنوياً لأولئك الوافدين قارب الى الحين عددهم الاجمالي ١٩٠ ألفاً، فيما ناهز حالياً العدد السنوي للولادات السورية أربعين ألفاً مقابل خمسة وستين ألفاً للبنانيين. ويُضاف إلى فئة المقيمين الأجانب مئتان وسبعون ألف (٢٧٠,٠٠٠) فلسطيني، ومئتان وخمسون ألفاً (٢٥٠,٠٠٠) من رعايا دول عربية وإفريقية وآسيوية، أي ما مجموعه ٦،٥ ملايين نسمة على مساحة ١٠,٤٥٢ كلم٢. بذلك تصل الكثافة السكانية في لبنان إلى ٦٢٠ شخصاً/كلم٢، وهي من أعلى نسب العالم (باستثناء “الدول-المدن” مثل موناكو وسنغافورة وهونغ كونغ…). وحتى لو أخذنا في الاعتبار اللبنانيين المقيمين فقط، لقاربت الكثافة السكانية الـ ٤٠٠ شخص/كلم٢، وهو، أصلاً، السبب الذي جعل أرض لبنان الجبليّة والمزدحمة، منذ أواخر القرن التاسع
عشر، بلد هجرة يغادره مواطنوه، مع ما يقدر ببضعة ملايين ينحدرون من أصل لبناني منتشرين في أنحاء العالم.
ثالثاً: الوضع القانوني للسوريين في لبنان. يصنّف الـ ٢,٠٨٠,٠٠٠من الرعايا السوريّين في لبنان ضمن فئتين قانونيتين:
السوريون البالغ عددهم (١,٤٨٦,٠٠٠) والذين منحتهم “المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” (لاحقاً “المفوضية”) بقرار آحادي صفة “لاجئ”، صفة غير معترف بها في لبنان كونه ليس طرفاً في اتفاقية الأمم المتحدة لعام ١٩٥١الخاصة باللاجئين. أمّا التصنيف الواجب اعتماده في لبنان تبعاً للمعجم القانوني الدولي فهو نازح (مع تمييزه عن “النازح داخلياً” وهو من أرغم على تغيير مكان إقامته داخل وطنه). ويندرج هؤلاء النازحون تحت تصنيفين: الأول: ٨٨٦،٠٠٠ من “المسجلين” لدى المفوضية بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٥؛ والثاني : ٦٠٠,٠٠٠ من “المدوّنين” لدى المفوضية منذ العام ٢٠١٥ على الرغم من أن الحكومة اللبنانية، القلقة من التدفق المتواصل للسوريين، أبلغت المفوضية بوقف عملية “التسجيل”، وهو طلب تجاهلته المفوضية لتتابع قبول السوريين الوافدين تحت توصيف “مدوّنِين”، لم يتم اعطاؤهم “بطاقة تسجيل” بل رمز مشفر يسمح بالتعرف عليهم ويخولهم تلقّي المساعدات. وبينما تتلقى كلتا المجموعتين مساعدات مالية، لا تشمُل الحماية القانونية، تبعاً للنظام الدولي، سوى المسجلين.
والفئة الثانية: السوريون الذين يقدرون بـ ٥٩٤ ألفاً ويقيمون في لبنان من عمال وطلاب وزائرين وأزواج لبنانيات، فقد تجاوزت مدة إقامتهم الفترة المتاحة أو من عبر خلسة الحدود السورية التي يسهل اختراقها وتصعب مراقبتها على امتداد ٣٧٥ كيلومتراً. ففي تقدير الأمنيين، يتطلّب ضبط الحدود أربعين ألف جندي فيما لا تتعدّى العناصر المنتشرة حالياً الأربعة آلاف، إضافة الى الحاجة إلى أبراج مراقبة ومعدّات مصادر تمويلها غير متوافرة.
تجدر الاشارة إلى أنه قبل اندلاع حرب سوريا، كان هناك في لبنان، تبعاً لحيوية الاقتصاد ومتطلّباته، ما بين ٢٠٠ و٤٠٠ ألف سوري يعملون في قطاعات البناء والزراعة الموسمية والصناعة، وكان دخلهم يعيل أسرهم في سوريا.
وتطلب ورقة لبنان إعادة صياغة السياسات المتعلقة بالوجود الكثيف للمسجّلين والمدوّنين على لوائح المفوّضية بما فيه الترتيبات اللوجيستية لإدارة هذا الملف عبر مؤسسات الدولة بالتنسيق مع المفوّضية ومجموعة المانحين. والأساسي في ذلك هو أن تكون السلطات اللبنانية، كما هو الحال في تركيا والأردن، مصدر السياسات والقرارات المتعلِّقة بملفّ النازحين. أمّا الواقع حتى الآن، فقد تمّ تفويض سياسة إدارته إلى حدّ بعيد لجهات خارجية ثنائية أو متعددة الأطراف تدعم أكثر من مئتي منظمة غير حكومية تعمل بهامش تحرّك واسع تبعاً لأهداف مموّليها غير مكترثة بسلطة الدولة اللبنانية.
وفي هذا الاطار، يجب أن تلتزم المفوّضية باطلاع الدولة اللبنانية على ما يلي:
(أ) – السياسة المَّتبعة من مجموعة المانحين لجهة استمرار التمويل المطلوب للسوريين المسجلين والمدونين على لوائح المفوضية حتى إقفال الملف، لا سيما أن المفوضية خفّضت خلال الأشهر الماضية عدد السوريين المستفيدين من مساعداتها من ١,٣ مليون إلى ٨٠٠ ألف، مع تَوَقُّع استمرار الاتجاه الانحداري في مستوى التمويل، ما يثير التساؤلَ حول مصادر العيش البديلة لمئات الآلاف الذين أُسقِطوا من اللوائح، والخوفَ من وقع ذلك على سوق العمل في لبنان.
(ب) – الخطط الموضوعة من قبلها لجهة تحديد عدد السوريين المسجلين والمدونين على لوائحها التي تعمل على اعادة توطينهم في بلد ثالث، والمدة المتوقعة لذلك، وما سيكون مصير الذين لن تتأمن لهم اعادة توطين (تطبيقاً للاتفاقية الموقعة بين المديرية العامة للأمن العام والمفوّضية إبان حرب العراق، والمصادق عليها بالمرسوم رقم ١١٢٦٢ تاريخ ٣٠/١٠/٢٠٠٣).
وتقترح الحكومة اللبنانية عدداً من الاجراءات الأساسية لمقاربة ملف السوريين المقيمين في لبنان عبر تدابير يمكن للسلطات اللبنانية الشروع بتنفيذها داخل الحدود الوطنية بمساعدة المجتمع الدولي ودعمه لخطتها. وتستلزم هذه التدابير ما يلي:
أولاً: تكليف الأمن العام إجراء مسح وتسجيل السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية بمساعدة من ترتئيه من المؤسسات الوطنية ،على أن تشمل عمليات المسح والاستطلاع لكل فرد وعائلته الاسم والعمر ومستوى التعليم والمهنة والعنوان ومكان الاقامة في لبنان، إضافةً إلى البلدة والمنطقة التي غادروها في سوريا وتاريخ دخولهم لبنان وطريقته ومكانه.
ثانياً: نزع صفة اللجوء الذي أضفته المفوضية على النازحين المدرجين على قوائمها والذين يعبرون الحدود ذهاباً وإياباً إلى سوريا، مع اتخاذ الاجراءات اللازمة بشأنهم بما فيه عدم السماح لهم بالعودة إلى لبنان مجدداً.
ثالثاً: ترحيل السوريين الصادرة بحقهم أحكام قضائية لارتكابهم جرائم. أما أولئك الذين يخشون على سلامتهم إنّ رحلوا إلى سوريا، فسوف يعهد إلى المفوضية متابعة أمرهم إن كانوا مسجّلين على لوائحها المسلمة الى الأمن العام. وللإشارة يفوق عدد السجناء من السوريين ٢٨٠٠، ما يمثل أكثرَ من ٣٠٪ من الموقوفين في سجون لبنان ويزيد من اكتظاظها.
رابعاً: إخضاع جميع المواطنين السوريّين غير المدرجين على قوائم المفوّضية، لقوانين الاقامة والعمل والممارسات التجارية في لبنان، والتأكد أنّ أنشطتهم لا تخلق منافسة غير عادلة للعمّال وأرباب العمل اللبنانيين.
كما تقترح الحكومة تجميع المخيّمات المنتشرة عشوائياً ودمجها ضمن بضعة مراكز منظّمة تستحدث على مشاعات الدولة. يجب على لبنان، وإن تأخر في هذه العملية، أن يعيد النظر في الترتيبات اللوجيستية الحالية – التي نشأت تلقائياً نتيجة غياب التخطيط – المتعلقة بإقامة النازحين السوريين المسجّلين والمدوّنين على لوائح المفوضية المُسَلَّمة إلى الأمن العام، والمنتشرين بكثافة على امتداد الأراضي اللبنانية في المدن والبلدات والقرى والأحياء في مساكن مكتظَّة، بالاضافة إلى حوالي ٤٣٠٠ من المخيّمات المنتشرة عشوائياً مع كثافة رئيسية في محافظتي الشمال والبقاع. لِذا لا بد من النظر بجدية إلى إنشاء مراكز منظَّمَة لإيواء النازحين تحت عهدة المفوضية وتمويلها، ورقابة السلطات الأمنية اللبنانية، على مثال مخيم الزعتري في الأردن حيث يقيم أكثر من ٨٠ ألف لاجئ سوري.
وإلى أن يعود النازحون إلى سوريا، ستكون هذه المراكز المنظمة، وهذه وحدها، موقعاً لتقديم المفوّضية خدماتها المموّلة من الجهات المانحة، من تعليم، ورعاية صحية، وحيث تسمح الظروف، أنشطة مولّدة لفرص العمل لا تشكل منافسة لليد العاملة اللبنانية. وكما هي السياسة المتّبعة في مختلف بلدان العالم، فإن واجب لبنان الإنساني والأخلاقي كدولة عبور يتلخّص في تأمين الخدمات الحيوية للنازحين- من دون ربطها بالخدمات المتوافرة للمواطنين – انطلاقاً من الاعتبار أن إقامتهم مؤقتة في انتظار أول فرصة آمنة للعودة إلى ديارهم.
وتخلص ورقة الحكومة إلى أن دمج النازحين في النسيج الوطني لا يمكن أن يكون خياراً لأن نتيجته الحتمية ستكون تذويب الأقلِّية اللبنانية التي تتقلص يوماً بعد يوم ضمن أغلبية سورية تزداد من دون هوادة. وعلى لبنان المثابرة في مناشدة المجتمع الدولي متابعة تقديم المساعدات للعائدين داخل سوريا لفترة من الزمن، على الرغم من أن مناشدته لم تجد صدىً حتى الآن. وفي حين يجاهر المجتمع الدولي بحرصه على كيان لبنان واستقراره وأمنه، اما موقفه الفعلي، الذي تمليه من جهة علاقته المتأزمة مع الحكومة السورية وعدم الثقة بها لحماية العائدين، ومن جهة أُخرى مصلحتُه في إبقاء النازحين في بلاد الجوار بعيداً عن حدوده وشواطئه، يتجاهل كلّياً ما قد يكون لاستمرار النزوح السوري الكثيف من ارتدادات وعواقب على لبنان، من وقع على اقتصاده، وتأثير على بيئته، وتقويض لاستقراره وتماسكه الاجتماعي وسلمه الأهلي، وفي المدى المنظور، تذويب للهوية الوطنية.