مريب التوقيت الذي نُفِّذ فيه الاعتداء الارهابي على السفارة الأميركية في عوكر أمس، وكل تفاصيل العملية تبدو مشبوهة، لا شيء مجانياً ومن دون هدف حتماً، وقد يكون مبكراً إطلاق العنان للتحليلات والدوافع والأهداف، إلا أن ثمة معطيات تكشف خيوطاً إذا وُضعت في الإطار الصحيح، فتُصبح الصورة أوضح.
في الواقع ليس الوصول إلى مدخل السفارة الأميركية في عوكر مسألة معقّدة. السفارة التي تشهد أكبر عملية بناء لمنشآتها الجديدة، تحتاج إلى تدابير عالية المستوى، نظراً إلى عدائية بعض التنظيمات الأصولية حيالها مثل “داعش” و”حزب الله” وغيرهما. أما منفّذ عملية إطلاق النار اليوم على السفارة السوري قيس فراج والمنتمي إلى “داعش” كما قيل، فتمكّن من الاقتراب كثيراً من مبنى السفارة، وهذا ما اعترف به وزير الداخلية بسام مولوي، مؤكداً أنه “اجتاز عدة حواجز وهذا مستغرب”. وقد أسفر ذلك عن إصابات لحراس السفارة، قبل أن يقوم الجيش اللبناني بالاشتباك مع فراج واصابته مباشرة ونقله إلى المستشفى. علماً أنه سبق للسفارة أن تعرضت لإطلاق نار في 20 أيلول 2023، ولو من دون وقوع إصابات!
قد تكون الوقائع الأمنية وكيفية وصول فراج من مجدل عنجر إلى عوكر حاملاً الأسلحة والمتفجرات مهمة جداً، إلا أنه لا يمكن قراءة العملية الأمنية بمعزل عن الرسالة السياسية، وهنا بيت القصيد.
وكان لا بد من الاستعانة بالباحث في شؤون مكافحة الارهاب بيار جبور الذي لاحظ أنه إلى جانب عبارة “لا إله إلا الله”، كُتِبَ على جعبة فراج عبارة “داعش” بالإنكليزية ISIS، “ونحن نعرف أن التنظيم يكتب إسمه كاملاً باللغة العربية أي الدولة الاسلامية في العراق والشام، لأنه يعتبرها اللغة السامية وترتقي فوق كل اللغات كونها لغة القرآن، وبالتالي هذا يطرح علامة استفهام”.
ولفت جبور إلى أن العمل الارهابي الذي قام به قيس فراج ليس عفوياً، وقد أثبتت التحقيقات والوقائع ذلك، مثل العثور على عبوات متفجرة في منزل شقيقه في مجدل عنجر، وهناك من سهّل له الوصول إلى عوكر، إضافة إلى القاء القبض على خمسة متورطين. علماً أن هذه العملية الأمنية، تطرح مرة أخرة مسألة الوجود السوري في لبنان، وإمكان استغلاله لأهداف تخريبيّة.
أما النقطة الأهم التي لمّح إليها جبور فهي الرسالة السياسية التي ترتبط، وفق مقاربته، بما يحصل في المنطقة ككل وخصوصاً الحرب في غزة ومشاركة محور الممانعة من إيران إلى جنوب لبنان في الصراع الدائر، ولا يُمكن إلا ربط ما حصل بقمة النورماندي التي تجمع اليوم الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وسيكون على طاولة البحث الوضع في غزة وجنوب لبنان ومعظم أزمات الشرق الأوسط، وبالتالي ليس مستبعداً أن يكون فريق الممانعة مسهّلاً لهذه العملية ضد السفارة الأميركية، ليقول للأميركيين: نحن هنا، وبالتالي إذا غضضنا الطرف يُمكن للمتطرفين أن يضربوا المصالح الأميركية في المنطقة. واذ أشار جبور إلى أنه بات معروفاً بأن “داعش” غبّ الطلب، يستخدمه النظامان الايراني والسوري، رأى أن “العملية ليست بعيدة عن هذا المنحى السياسي، ولا بد من الاعتراف بأن هناك خلط أوراق اقليمية، ولا شك في أنها رسالة للأميركيين من الممانعة بأنها قادرة على تهديد المصالح الأميركية بطريقة لا تثير الشبهات”.
خلاصة، مهما كانت المقاصد والأهداف من العملية الارهابية ضد السفارة الأميركية، يبدو أن أمنها ليس مضبوطاً مئة في المئة، وقد يكون التعامل مع المظاهرات المناوئة للسياسة الأميركية جيداً وكانت قوى الجيش تؤمّن حماية السفارة، إذ توقف هذه المظاهرات عند مدخل الطريق المؤدي إليها من ساحة عوكر. ولكن هذا الطريق مفتوح دائماً للسيارات. ثمّة حاجز للجيش وعسكري داخل “الكابين” يكتفي عادة بإيماءة عفوية للسيارات بالمرور من دون تفتيش إلا في حالات نادرة خصوصاً للشاحنات الصغيرة. وعند المدخل الشرقي ثمّة حاجز آخر للمتّجهين نزولاً يعتمد التدابير نفسها.
خلال الأشهر الثمانية السابقة، تعرضت السفارة الأميركية لحادثتي إطلاق نار فوجئ بها حرّاس السفارة في الداخل، ولم تكن كافية أيضاً لكي تتنبّه قوة الجيش التي تحمي السفارة حتّى تستنفر وتوقفهما قبل أن تعي حقيقة ما حصل. كما أنّ محيط السفارة يُعتبر فالتاً أمنياً. ربما كانت السفارة بالتعاون مع أجهزة الأمن اللبنانية أخذت تدابير حماية من خلال تحديد هوية السكان في الأبنية المجاورة، ولكن هذا الأمر لا يكفي، ذلك أنّ بإمكان أي جهة منظَّمة أن تخترق هذه التدابير وتستخدم أحد الأبنية المطلّة على السفارة لتراقب ما يحصل داخلها خصوصاً أنها تمتدّ على مساحة واسعة محاطة بسور حديدي بسيط وبأبراج مراقبة لا يمكن أن تؤمّن لها حماية بالكامل.
كل ذلك، مرتبط بإرتفاع نسبة العدائية حيال الولايات المتحدة الأميركية وسياستها وخصوصاً في ظلّ الحرب المتحدمة في قطاع غزة وجنوب لبنان، ومن المتوقع أن لا تكون هذه الحادثة الأخيرة من هذا النوع، ولا سيما أن بعض الجهات المسلّحة جاهز لتوجيه رسائل كلّما طلبت مرجعياته ذلك.