لا تقتصر آثار المجاعة في غزة على الفترة الحالية فحسب بل قد تنسحب لتطال الأجيال التي لم تبصر النور بعد، وفقاً لتقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (csis). وحسب التقرير، “تستمر ظروف الجوع والأمن بالتدهور في جميع أنحاء غزة وقد لا يتغير الوضع حتى شهر يوليو/تموز على الأقل على مستوى تقديم المساعدات الغذائية. ويترك التقليص المتعمد للطعام والمياه والطاقة والمساعدات الانسانية التي تدخل غزة أكثر من 1.1 مليون شخص بمواجهة ظروف معيشية كارثية.
وفي السابق، كان معبر رفح وكرم أبو سالم في جنوب غزة بمثابة نقاط الوصول الرئيسية لتدفق الامدادات التجارية والانسانية إلى المنطقة. ومع ذلك، انخفضت المساعدات التي تدخل عبر المعابر الجنوبية إلى بعض من أدنى المستويات التي شهدتها طوال الحرب، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن المساعدات التي تدخل قطاع غزة بأكمله قد انخفضت بنسبة الثلثين. كما اضطرت مرافق الإغاثة العاملة في رفح الى إيقاف عملياتها. وعلقت الأمم المتحدة، على سبيل المثال، توزيع المواد الغذائية في رفح بسبب نقص الامدادات وتزايد المخاوف الأمنية.
ويدرك المجتمع الدولي بصورة متزايدة مدى خطورة الأزمة الغذائية في غزة. وفي مايو/أيار، طلبت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بتهم جرائم حرب شملت تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. ويضاف الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في مايو/أيار إلى عدد متزايد من الأصوات التي تطالب إسرائيل بوقف هجومها العسكري في رفح، وحتى الآن، لم تستجب لهذه الدعوات.
وتتوافر بالفعل أدلة كبيرة على الآثار الحادة لسوء التغذية على أطفال غزة. ومن الضروري النظر في العواقب الصحية المباشرة لانعدام الأمن الغذائي والمجاعة. فقد يؤدي سوء التغذية الحاد الوخيم إلى تبعات صحية خطيرة، وبالنسبة الى أطفال غزة الذين يعانون من سوء التغذية والذين نجوا من الحرب، لن تنتهي العواقب مع توقف القتال بحيث أن آثارها قد تبقى لأجيال. فعلى الرغم من إمكان علاج سوء التغذية الحاد من خلال التدخل الغذائي، قد يؤدي التأخر في النمو المرتبط بسوء التغذية إلى ضعف دائم في القدرة الإدراكية والمهارات الحركية، وزيادة خطر حدوث مشكلات سلوكية، وانخفاض كبير في التحصيل العلمي. كما قد تحرم الأضرار الناجمة عن سوء التغذية الأفراد من صحتهم ورفاهتهم وإمكاناتهم الاقتصادية.
وعلى المستوى الجماعي، تشكل الأضرار التي لحقت بالسكان ممن يواجهون انعدام الأمن الغذائي الشديد تحديات كبيرة للصحة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات والبلدان التي يعيشون فيها. وتديم هذه العلاقة العكسية بين سوء التغذية والتقدم حلقة مفرغة. كما تزيد ظروف الفقر وانعدام الأمن الغذائي المجتمعية من معدلات سوء التغذية، ما يعوق بدوره تنمية المجتمع، ويزيد من خطر انتشار سوء التغذية على نطاق واسع. وبالتوازي مع التهديدات الحادة والمزمنة لسوء التغذية، يضطر أطفال غزة الى التعامل مع الخسائر الجسدية والنفسية والاجتماعية العميقة الناجمة عن العنف الشديد الذي تعرضوا له. وتشير تقديرات إلى أن نحو 26 ألف طفل فلسطيني قتلوا أو جرحوا في الحرب. ونظراً الى طبيعة الصراع، الكثير من الإصابات كفيلة بقلب حياة الأطفال رأساً على عقب. كما تنذر المعدلات المرتفعة لعمليات بتر الأطراف لدى الأطفال وخطر الإصابات الدماغية بمعاناة وإعاقات طويلة الأمد للكثيرين.
فما الذي يجب فعله لمنع الضرر الدائم للمجاعة والحرب؟ بينما تتزايد الدعوات الى وقف فوري لإطلاق النار وزيادة المساعدات الإنسانية، من الواضح أن غزة تعرضت بالفعل لأضرار لا يمكن إصلاحها، مع الإشارة إلى أن نصف سكانها هم دون سن 18 عاماً. وبما أن الأطفال يتأثرون بصورة غير متناسبة بالصراع المسلح وسوء التغذية ويشكلون في الوقت نفسه نسبة كبيرة من السكان، ستترك التأثيرات على الصحة البدنية والعقلية تداعيات خطيرة وواسعة النطاق. كما أن النساء الحوامل والمرضعات، معرضات بشدة لآثار انعدام الأمن الغذائي الشديد. ومن المؤكد أن العواقب الصحية المزمنة للحرب ستؤثر حتى على الذين لم يولدوا بعد، لعقود من الزمن.
وتترك مثل هذه الظروف آثاراً واسعة النطاق على الأمن الجيوسياسي. وبغياب الدعم، من المرجح أن تؤدي الأضرار الفسيولوجية والنفسية المتأصلة إلى إعاقة التنمية الاقتصادية المستقبلية في غزة. لذلك يجب المسارعة الى تطبيق استراتيجيات شاملة وطويلة الأجل تعالج العلاقة بين الحرب والجوع. وهذا يشمل تحديد أولويات المساعدة التي تدعم النظم الغذائية القادرة على الصمود والتركيز على الوقاية من الجوع في العالم بصورة استباقية بدلاً من معالجة نتائجه القاتلة بطريقة تفاعلية، ووقف استخدام الغذاء كسلاح في الصراعات ودعم التسويات السياسية الضرورية لتجنب انعدام الأمن الغذائي”.