عندما أتى الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى السلطة بتوجهات عروبية جامعة، من خلفية نشأته السياسية كعضو في حركة القوميين العرب، ومن ثم من خلال قربه من مركز القرار في المملكة العربية السعودية، خصوصاً وأنه كان مكلفاً الى جانب وزير الخارجية الراحل سعود الفيصل بالملف اللبناني، كان يدرك تماماً الدور الوطني والعروبي للسنة في لبنان، الذين لم يعمدوا يوماً الى تأسيس حالة أو إطار “عصبي” لهم، على الرغم من حجم الإستهداف السياسي والعسكري، الذي تعرضوا له منذ منتصف الثمانينيات.
لذلك، حرص الرئيس الشهيد على إعادة إستنهاض هذا الدور من منطلق وطني، وتوظيفه في عملية الإنقاذ والإنتقال من مرحلة الحرب الى مرحلة السلم الأهلي، من دون التقوقع في إطار ضيق كطائفة، على أساس أن السنة جزء من أمة، سنداً لإيمانهم بعروبة لبنان المتنورة، مع التمسك بصيغته الفريدة القائمة على التعدد والتنوع والإنفتاح، ضمن نظام سياسي (وإن كان طائفياً!) يضمن خصوصيته الوطنية، ويطمئن جميع مكوناته، مع التطلع الدائم الى ضرورة وحتمية تطوير نظامه السياسي، عندما تتاح الظروف، بهدف الترفع التدريجي من الانتماء الطائفي إلى المواطنة العميقة، وصولاً إلى قيام دولة لا تكون الطائفية السياسية ركيزتها. وهذا ما ساعده في أدائه السياسي اللاطائفي، على الاعتماد على المرونة، بعيداً من التصلب، الذي كان نهجاً تتبعه الزعامات الطائفية، لا سيما التي أفرزتها الحرب بحكم الأمر الواقع، والتي كانت تنظر إلى مراكز تمثيلها في النظام “الريعي” بوصفها مكاسب وجودية لا تمس.
وعليه، شكل السنة بقيادة الرئيس الشهيد من خلال نمطهم وسلوكهم السياسي والاجتماعي، نقطة الارتكاز وحجر الزاوية في قيام الجمهورية الثانية، التي قُدِّر لها أن تكون جمهورية مرتكزة على التلاقي التوافقي بين فئات مجتمعية- طوائفية في منظومة كيانية ميثاقية.
كان هاجس الرئيس رفيق الحريري واهتمامه يرتكزان على مسألة وطنية أساسية، تتمثل في انهاء الحرب ومخلفاتها المدمرة، وتحقيق السلم الأهلي وإعادة إعمار وبناء لبنان الوطن والنظام من جديد. لم يكن الإعمار عنده يقوم على البناء المادي فقط، انما كان بكل ما تحمله كلمة إعمار من أبعاد وطنية شاملة في السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم ومتطلبات النهوض السياسي والتعليمي والاقتصادي. لقد كان يعتبر إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي هما الأساس الصلب الذي يقوم عليه هذا التوحد اللبناني بتنوعه، واللذان يوفران المصالح المشتركة بين اللبنانيين، ويساعدان على تحقيق العيش المشترك بين طوائف لبنان المتعددة والمتنوعة.
مشروع الحريري كان يرتكز على الاعتدال والتوازن والعيش المشترك، وكان يعمل من أجل ترسيخ الوحدة الوطنية اللبنانية على أسس صلبة، تقوم على التوازن بين “اللبننة” و”العروبة” (المنفتحة والمتنورة)، بحيث ساهم في بلورة المفهوم الوطني الذي يربط الوطنية اللبنانية الشاملة بالعروبة. وتلك المعادلة الوطنية ببعدها العربي التي أرساها الرئيس الشهيد، أعادت المسلمين (وتحديداً السنة منهم) إلى كيانيتهم اللبنانية، بعدما حرر المسلمين من تبعيتهم للعروبة من خلال ولائهم لأنظمتها المتتالية التي أمسكت القرار اللبناني تاريخياً، مقابل إراحة المسيحيين وطمأنتهم بإنتماء لبنان إلى عروبته كدولة مستقلة ذات سيادة، والتأكيد على دورهم التمايزي الذي يعطي لبنان خصوصية تعددية، تجعله ذات صيغة فريدة قائمة على التعدد والتنوع والإنفتاح، بين نظرائه من الدول العربية.
وفي سياق هذا العرض، لا بد من التذكير بأن الحريري الذي كان يستشرف ما يحضر للمنطقة من صراعات مذهبية وعرقية، ضمن ما اصطلح على تسميته بمشروع “الشرق الأوسط الجديد”، خصوصاً بعد تفجيرات ١١ أيلول ٢٠٠١، وما كان يتم التحضير له من إطلاق العنان للحركات المتطرفة والارهابية تحت مظلة “الاسلام السياسي”، تمكن بما كان يحظى به من ثقة أن يحافظ على “ااإعتدال” السني و”وسطيته”، في وجه كل تلك الحركات “المتأسلمة”، وذلك حفاظاً على الهوية الوطنية الحقيقية لسنة لبنان من جهة، ولتحصين لبنان وصونه من تمدد تلك الحركات إليه، وبالتالي زجه في ما كان يتم الاعداد له من حروب في الدول المجاورة، لتفكيكها وتأجيج الصراعات بين أبناء الشعب الواحد من جهة أخرى.
وبذلك، حافظ الحريري على “الاعتدال” السني وقوته، من ضمن نهجه الذي يقوم على التوازن السياسي والوطني، والذي يشكل إمتداداً تاريخياً للدور الذي لعبه زعماء الطائفة وقادتها، بدءاً من “الميثاق الوطني” عام 1943 الذي كان عموده الفقري الموارنة والسنّة، بشخصي الرئيس بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، ومن حولهما شخصيات بقية الطوائف، وليس إنتهاءً بـ”وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف، التي كان له الدور الأبرز في التوصل إليها، حتى أطلق عليه “مهندس الطائف”.
بناءً عليه، يمكن فهم هذا الدور الأدائي المتميز سياسياً للرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي جعله يخرج من مجال الزعامة السنيّة الى مجال القيادة الوطنية اللبنانية الشاملة والجامعة، ولعب الدور المحوري في ترسيخ أمتن الروابط بين لبنان وأشقائه العرب، ونسج أوسع علاقات التعاون وأفضلها مع أصدقائه الغربيين، موظفاً ومسخراً شبكة علاقاته العربية والدولية في هذا الاطار.