العراق: ميليشيا تلد أخرى و”حزب الله” المايسترو

علي البغدادي

منذ أن أجاز بول برايمر الحاكم المدني الأميركي للعراق بعد الغزو في 2003، القانون رقم 90 لسنة 2004 المتعلق بإشراك الميليشيات التي قاتلت نظام صدام حسين في المؤسسات الأمنية وكانت على عدد أصابع اليد، حتى فُتح الباب لاحقاً أمام تناسل الميليشيات وثقافة الدمج في الحياة العسكرية والأمنية العراقية، على أسس من الفوضى والاستقواء بالسلاح، لم تنجح الرؤية الأميركية في محاولة ضبط السلاح المتفلت للأحزاب السياسية إلا بحدود معينة انسجمت مع مصالح “أمراء” تلك الفصائل في الاستحواذ على المناصب الأمنية العليا والتغلغل في الأجهزة الحساسة ومفاصلها وجني المكاسب المالية من خلال استغلال النفوذ والإثراء السريع الذي دفع آخرين لابتكار موضة تشكيل الميليشيات وممارسة الابتزاز السياسي والأمني لضمان إيجاد موطئ قدم في المشهد الأمني.

أدوار إقليمية

ومع حالة العنف التي سادت العراق منذ 2003 والحرب الطائفية بين متطرفي الشيعة والسنة، كانت الثورة السورية في 2011 نقطة تحول مفصلية أماطت اللثام عن وجوه الميليشيات الممولة من إيران، والتي ظهرت علنا في القتال إلى جانب نظام بشار الأسد، من خلال فريق رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي لم يدّخر وسعاً بنقل عناصرهم إلى سوريا، من خلال توفير الأموال والتجهيزات العسكرية من ميزانية الدولة العراقية للحؤول دون اطاحة الأسد أحد أهم حلفاء إيران.

وعلى غرار “حزب الله” تتغنى الفصائل العراقية بسلاح الصواريخ الذي يتم تهريبه من إيران إلى العراق، لصالح ميليشيات “حزب الله” العراقي و”عصائب أهل الحق” ويستخدم لقصف المصالح الأميركية أو لتهديد دول الجوار وحلفاء واشنطن إلى جانب انخراط قادة الفصائل العراقية والسورية واليمنية والسورية والباكستانية والافغانية بإشراف قادة الحرس الثوري الإيراني بما يشبه التجمع أو مجلس شورى لمراجعة مجريات الأحداث واتخاذ المواقف إزاء ما يستجد.

وجاءت ساعة الحسم بالنسبة للميليشيات من خلال مأسسة ملفها ومنحها الغطاء القانوني والشرعية في تنفيذ أعمالها المرتبطة بظهور تنظيم “داعش” واكتساحه ثلثي العراق وفتوى الجهاد الكفائي التي صدرت عن المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني واستثمرتها تلك الفصائل لمصالحها، عبر الاندماج في “الحشد الشعبي” الذي ضم فصائل سنية وشيعية ومسيحية ومن الشبك والأيزيديين والتركمانيين، يدين جزء كبير منها بالولاء لإيران.

الميليشيات الولائية

وساد في الساحة السياسية والإعلامية في السنوات الماضية مصطلح “الميليشيات الولائية”، في إشارة إلى خضوعها وانقيادها وولائها للمرشد الإيراني علي الخامنئي الذي منح قاسم سليماني الجنرال المقتول بغارة أميركية العام الماضي صلاحيات تشكيل مثل تلك الفصائل واستثمار غياب أو ضعف السيطرة الحكومية الأمنية في صنع أدوات تنفذ الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة وربط العراق بشبكة المصالح الإيرانية وجعله ورقة بيد الولي الفقيه ومن يمثله في أي مفاوضات إيرانية – أميركية لتقسيم الأدوار والنفوذ في المنطقة. وتحول العراق بعد طرد “داعش” من معاقله في الموصل وتكريت وغرب العراق إلى بيئة حاضنة للميليشيات المدعومة من إيران خصوصاً “حزب الله” و”عصائب اهل الحق” و”كتائب سيد الشهداء” و”النجباء” و”سرايا الخراساني” و”بدر”، إلى جانب “سرايا السلام” التابعة لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر ومقاتلين عشائريين من العرب السنة. وظهرت في الآونة الأخيرة ميليشيات جديدة مجهولة القيادة، لكنها معلومة التوجه أطلق البعض عليها فصائل “الـكاتيوشا”، نسبة إلى صواريخ “الكاتيوشا” التي يتم إطلاقها على السفارة والقواعد الأميركية في بغداد ومدن عدة من بين تلك الفصائل “أهل الكهف” و”ربع الله” و”جماعة القداحة” وغيرها من المجموعات الصغيرة التي تتناسل يوماً بعد آخر وتأخذ مسمّيات تلقي الخوف في نفوس العراقيين، وتضع الحكومة في موقف حرج أمام الالتزامات الدولية، وتعمل بعض الميليشيات العراقية المدعومة من طهران والتي تتكاثر باستمرار على محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه لدعم الاقتصاد الإيراني شبه المنهار والالتفاف على العقوبات الأميركية، من خلال الاستحواذ على عقود المقاولات من الوزارات العراقية وتهريب البضائع عبر الحدود وتجارة السلاح والمخدرات وتهريب النفط.

“حزب الله” مايسترو الميليشيات

الميليشيات التي تصدرت المشهد الأمني، هي ميليشيا “كتائب حزب الله العراقي”، التي تتلقى تمويلاً وتسليحاً وتدريباً إيرانياً، وكان يرأسها أبو مهدي المهندس الذي قتل مع سليماني بالغارة الأميركية، وتحولت هذه الميليشيا إلى دولة داخل الدولة، وأقرب ما يكون إلى الراعي الرسمي أو “المايسترو” الذي يحرك أغلب الميليشيات الولائية من جهة سيطرتها على قرار الحرب والسلم في مواجهة التواجد الأميركي في المنطقة، وهو دور يقترب إلى حد كبير من دور “حزب الله” في لبنان، ويشبه سعيه لبناء اقتصاد مواز وبنية تحتية تساعده في تمويل نشاطاته ذاتياً، خصوصاً أن هذه الميليشيا كثيرا ما تستعين بخبراء من “حزب الله” في مختلف المجالات، ونجحت “كتائب حزب الله” في إدخال عناصر تابعين لها إلى المنافذ الحدودية لضمان السيطرة عليها، إلى جانب إنشاء سلسلة مطاعم وفنادق ومجمعات فخمة والسيطرة على القطاع السياحي والزراعي، بالإضافة إلى تجارة المخدرات الآتية من إيران، وتجارة السيارات وملف مزاد العملة في البنك المركزي وغيرها من الملفات التي تدر عائدات مالية ضخمة تعين ذلك الفصيل على تطبيق سياساته وخططه بإحكام قبضته على كل نواحي الحياة في العراق.

ووجدت “كتائب حزب الله” العراقي شركاء مسلحين يصطفون إلى جانب التوجهات الإيرانية وتطبيق رؤية الولي الفقيه في جعل العراق ملحقاً وحديقة خلفية لإيران من أبرزهم “ميليشيا بدر” بزعامة هادي العامري، التي تعد من أقوى وأغنى الميليشيات وذات سطوة ونفوذ وتأثير في المشهد السياسي والأمني وتمثيلاً نيابياً، فضلاً عن “عصائب أهل الحق” التي يقودها الشيخ قيس الخزعلي الذي انشق عن جيش المهدي المدعوم من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وذهب نحو الدعم الإيراني، وممارسة تصرفات دمجت الجانب العسكري بالسياسي، وصولاً إلى الانتقال النوعي نحو الاقتصاد، وهو ذو سطوة ونفوذ وتأثير في المشهد السياسي والأمني وتمثيل نيابي، وهو المنحى نفسه الذي قامت به بقية الميليشيات كـ”النجباء” و”كتائب سيد الشهداء” و”كتائب الإمام علي” و”أبو الفضل العباس” و”سرايا الخراساني” إلى جانب أكثر من 40 فصيلاً ولائياً بات يمتلك مكاتب اقتصادية لتمويل نشاطاته الواسعة، بعد تضرر إيران من العقوبات.

ويقدر عدد الميليشيات الولائية المدربة والمجهزة تجهيزاً عسكرياً حديثاً بأكثر من 100 ألف عنصر، تم دمجهم ضمن تشكيلات الحشد الشعبي ويحصل عناصرها على رواتب من الدولة وهم خاضعون شكلياً لأمرة مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء الذي يتعرض لضغوطات كبيرة وهجمات منظمة من قبل قادة تلك الفصائل ومحاولة إضعافه لإظهاره بمظهر العاجز عن ضبط الأمن.

قدرة الكاظمي على لجم الفصائل

ويحاول الكاظمي ضبط إيقاع الأوضاع العامة في البلاد التي ستدخل بعد نحو 5 أشهر في استحقاق الانتخابات التشريعية التي يسعى الكاظمي فيها لولاية جديدة، فيما تعمل بعض قيادات الفصائل على إحباطها من أجل إظهار رئيس الوزراء بمظهر العاجز عن تحقيق أي إنجاز يمكن أن يسهم برفع مستوى شعبيته.

ويبدو أن الكاظمي الذي يجيد مسك العصا من الوسط، يعمل بكل ما أوتي من قوة، على تحييد الفصائل الولائية رغم توغلها وقدرتها على فرض إرادتها على الحكومة من خلال الاستعراضات المسلحة في شوارع العاصمة، لكن بعض الساسة العراقيين يرون أن الحكومة العراقية قادرة على لجم الميليشيات، في ظل رفض غالبية الشعب العراقي لفرض نموذج ولاية الفقيه.

وفي هذا الإطار يقول النائب ظافر العاني نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي ورئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن القومي في البرلمان العربي في تصريح خاص إلى موقع “لبنان الكبير”، أنه “عندما تتعقل إيران سنرى أن الميليشيات المنتشرة في العراق ستضع السلاح جانباً وتندمج في المجتمع من جديد”، مشيراً إلى أن “تلك الميليشيات تعتاش على مناخ العداء الذي خلقته إيران في المنطقة ووظيفتها مرهونة بتغير سياسة إيران”.

ويرى العاني أن “للحكومة العراقية قدرة على ضبط الميليشيا” من خلال سلسلة إجراءات ذات طبيعة تأديبية ومراقبتها ومحاصرتها ونزع سلاحها، لافتاً إلى أن “الشعب العراقي لديه موقف سلبي منها ومن سلاحها المنفلت لتنفيذ اجندة خارجية لا تحقق مصلحة العراق”.

وأوضح أن “مساعي إيران لترسيخ مبدأ ولاية الفقيه ستفشل في العراق لأن الشعب العراقي ليس بوارد الإيمان بهذه النظرية وهو شعب مدني ومتحضر ومتعدد إثنياً وعرقياً وقومياً ولا يمكن قسره على مبدأ أو نظرية معينة تعمل عليها ميليشيات منفلتة”.

يبقى ملف الميليشيات المسلحة دون حلول واضحة، في ظل استمرار تناسلها وانتشارها وازدياد تأثيرها على وقع الرغبة الإيرانية بجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة وورقة يتم استخدامها في المفاوضات بين طهران وواشنطن التي إن نجحت فإن ملف الفصائل سيكون في درج مكاتب “الحرس الثوري” يتم استثماره وقت الحاجة.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً