ليس سراً أن كنز “حزب الله” الاستراتيجي يقع تحت الأرض وليس فوقها، وما لا يعرفه كثيرون أن “الحزب” بدأ ببناء أنفاق ومخازن تحت الأرض ما قبل العام 2006، بالوسائل البدائية، لكن بعد حرب تموز، أخذت الأمور منحى آخر، وتعامل “الحزب” مع هذا الموضوع الشائك والاستراتيجي بإحتراف أكبر. ويتحدث تقرير غربي حديث ارتكزت عليه وسائل إعلام أجنبية ومنها “ليبراسيون” الفرنسية عن مدن تحت الأرض تفوق أنفاق “حماس” في غزة تطوراً وحداثة، بعضها لتخزين الصواريخ وبعضها الآخر ذو أهداف قتالية وهجومية، والأخطر أن مضمون هذا التقرير يتقاطع مع ما أورده رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو مرات عدة، ويُعتقد أن التقرير اعتمد على معلومات استقصائية من الفرنسيين والأميركيين والاسرائيليين، لا يُمكن تأكيد مصداقيتها.
في العام 2009، كُلِّف ضابط في الجيش اللبناني تحوّل اليوم إلى التقاعد، بمهمة في الجنوب، وخلال الجولة لم يجد أثراً لعناصر “الحزب” لا في الجبهات ولا في القرى، وعندما حاول أن يستقصي من بعض العارفين والعسكريين هناك، أخبروه أن نواة القوى العسكرية لـ”الحزب” تعيش تحت الأرض، وهذا ما تؤكده كل التقارير الصحافية الأجنبية والمحلية، إضافة إلى الصحافة الاسرائيلية التي يستشهد بها “الحزب” على الدوام.
أما التقرير الغربي الحديث فيكشف أن ثقة الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله الكبيرة بقدراته العسكرية لردع أي هجوم اسرائيلي تعود إلى اعتماده على الأنفاق التي تمّ بناؤها على مراحل، وتشمل مناطق نفوذه وصولاً إلى سلسلة الجبال الجردية التي لها امتداد إلى الحدود السورية.
ويلفت التقرير إلى أن اسرائيل بعد اكتشافها عام 2018 سلسلة أنفاق عابرة للحدود أعدها “الحزب”، قامت بتدميرها من خلال عملية “درع الشمال”، وكانت هذه الأنفاق تسمح لعناصر “قوة الرضوان” التابعة لـ”الحزب”، باختراق الأراضي الاسرائيلية من دون أن يتم اكتشافها أثناء العبور، وذلك بهدف السيطرة على المواقع العسكرية والمستوطنات المدنية على طول الحدود، وفي الوقت نفسه إلحاق الضرر بتعزيزات الجيش الاسرائيلي التي ستأتي لمساعدة تلك المواقع والمستوطنات. لكن نصر الله أكد حينها أن هناك أنفاقاً إضافية لم يكتشفها الجيش الاسرائيلي.
أما اليوم فيبدو “الحزب” مطمئناً إلى وضعيته العسكرية وينتظر المواجهة مع اسرائيل، إذ يعتمد على مجموعة واسعة من الأنفاق الاستراتيجية الاقليمية في لبنان، يبلغ طولها عشرات ومئات الكيلومترات، والتي تمتد وتربط المقر الرئيسي التابع لـ”الحزب” في بيروت بمنطقة البقاع، وصولاً إلى جنوب لبنان.
لقد حدد التقرير عدة أنواع من الأنفاق في لبنان:
أولاً، الأنفاق الهجومية، وهي أنفاق كبيرة والطويلة التي تؤدي من منطقة إلى أخرى. ويمكن إدخالها بالمركبات وحتى بالشاحنات المتوسطة الحجم.
ثانياً، أنفاق تكتيكية، كشف عنها الجيش الاسرائيلي ودمرها في عملية درع الشمال عام 2018، وكانت مخصصة لعناصر “قوة الرضوان”، يسلكونها بدراجاتهم النارية. كانت هذه الأنفاق التكتيكية تقع بالقرب من القرى، تسمح لعناصر “الحزب” بالقتال من تحت الأرض، وإطلاق النار من فتحات الأنفاق والعودة إلى الداخل، وإعادة التسلح من مخازن الأسلحة الموجودة بالداخل، والراحة، والخروج مرة أخرى.
ثالثاً، “أنفاق قريبة”، وهي مشابهة للأنفاق الهجومية التي دمّرتها اسرائيل، ولكنها لا تعبر الحدود. إنما تمكّن عناصر “قوة الرضوان” من الوصول إلى مناطق قريبة من الحدود، ومن هناك الخروج والهجوم.
رابعاً، الأنفاق المتفجرة، حفرها “الحزب” لهدف وحيد هو وضع متفجرات بداخلها، ليتم تفجيرها إذا تمكّن الجيش الاسرائيلي من اجتياز الحدود بضعة كيلومترات بهدف إجبار “الحزب” على التراجع نحو نهر الليطاني.
ويتطرق التقرير الغربي إلى أن اسرائيل تعلم بوجود هذه الأنفاق، وقد عمدت إلى قصف الكثير منها منذ 8 تشرين الأول الفائت، وخصوصاً في الجنوب، معلنة أنها دمّرت البنية التحتية لـ”الحزب” وربما حجم الدمار الذي أصاب بعض القرى الحدودية وخلفها قليلاً، كان بسبب استهداف مثل هذه الأنفاق، إلا أنه لا يمكن تأكيد إذا كانت اسرائيل قضت عليها بالكامل.
وشبكة الأنفاق التي بناها “الحزب”، وفق التقرير، تشمل مناطق عديدة من لبنان، إلى جانب بعض القرى الحدودية، هناك البعض منها في مرجعيون والنبطية جنوباً، جزين وصيدا غرباً، وبحيرة القرعون شرقاً، مروراً بعاليه والقماطية وصولاً إلى بشامون والشويفات باتجاه المربع الأمني في الضاحية الجنوبية.
ويطرح التقرير علامات استفهام عديدة حول وجهة استعمال بعض الأنفاق البعيدة عن الجنوب ومناطق المواجهة مع اسرائيل، ملمّحاً إلى أن “الحزب” قد تكون لديه مخططات أخرى في لبنان أو مجرد ربط مناطق وجوده ببعضها البعض بطريقة سرية كون استراتيجيته تقتضي تمدداً سرياً طويلاً بهدف مقاومة اسرائيل والدفاع عن لبنان كما يُروّج.
ويكشف التقرير الغربي أن أنفاق “الحزب” الاستراتيجية تحتوي على غرف قيادة وسيطرة تحت الأرض، ومستودعات ذخيرة وإمدادات، وعيادات ميدانية، وآبار مخصصة لإطلاق الصواريخ بأنواعها كافة مثل صواريخ أرض-أرض، صواريخ مضادة للدبابات ومضادة للطائرات.
أما بناء هذه الأنفاق فتمّ بواسطة شركات مدنيّة مموّهة بمشاريع زراعية ونقل المياه وانشاء بنية تحتية، وقد يصبح الأمر غير مستغرب عندما يتباهى “الحزب” بـ150 ألف صاروخ، حتماً لن يخبّئها فوق الأرض منطقياً إنما في أماكن آمنة نسبياً تحت الأرض، وقد طوّر “الحزب” بالتعاون مع الايرانيين هذه الأنفاق ليسهّل عملية إطلاق سريع ومتحرك للصواريخ.
بات مؤكّداً أن هناك عالماً آخر لـ”الحزب” تحت أرض لبنان، أشبه بجمهورية “معسكرة” له، وبالتالي لا أحد يعلم في لبنان كيف يتحرك عناصره، ولكن من الواضح أن الأنفاق في القرى الحدودية باتت خارج الخدمة، ولو كانت صالحة لم كان “الحزب” ليخسر هذا العدد من مسؤوليه الميدانيين من الصفّين الأول والثاني.
في المحصّلة، تبدو مؤسسات الدولة اللبنانية كالزوج المخدوع في هذا الموضوع، سواء كان التقرير صحيحاً أو غير صحيح، وما يفعله “الحزب” يقوّض سيادة الدولة ويؤكد مدى قدرته على استباحة البنى التحتية اللبنانية بعيداً كل البعد عن أي محاسبة أو مراقبة.