لا بدّ لميقاتي أن يعتذر!

جورج حايك
جورج حايك

لا يختلف اثنان على أن الرئيس المكلف نجيب ميقاتي كان جريئاً في توليه مهمة تأليف حكومة، بعد اعتذار رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري. فالمهمة التي رضي القيام بها ليست سهلة مع الطرف السياسي الآخر، ونقصد به رئيس الجمهورية ميشال عون وخلفه “التيار الوطني الحر” و”حزب الله”. فالحريري ذاق الأمرّين خلال تسعة أشهر مع فريق سياسي لا يأخذ في الاعتبار أن لبنان شهد ثورة وتغيّرات في المزاج الشعبي، ولا يهمه ما يعيشه المواطن من إذلال وفقر وغضب، بل يلهث وراء الحصص الوزارية لغاية في نفس يعقوب، مرة بحجة تسمية الوزراء المسيحيين، مرة بحجة الثلث المعطل، ومرة بضرورة الحصول على حقائب العدل والداخلية والشؤون الاجتماعية وغيرها…

“حزب الله” ليس بعيداً عن التعقيدات الحكومية، ولو أراد تأليف حكومة لم يكن من الصعب عليه أن يفرض إرادته على حليفه السياسي، أي عون وصهره جبران باسيل، لكن حتماً يريد الحزب أن يكون حليفه في موقع قوي ليضمن الاستحقاقات السياسية المقبلة.

دخل ميقاتي في هذه المغامرة، مدركاً كل هذه الصعوبات والشروط، محصّناً بثلاث أوراق: الأولى دعم دولي فرنسي – أميركي، الثانية دعم الطائفة السنية الكريمة بكل مكوّناتها وبينها المكوّن الرئيسي أي “تيار المستقبل” ورؤساء الحكومات السابقين، الثالثة الضغط الشعبي الناجم عن تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية.

حتماً استفاد ميقاتي من تجاربه السابقة، فهو شخصية ديبلوماسية، وسطيّة، معتدلة، يبرع في تدوير الزوايا، ويتمتع بمهارات التواصل. إلى جانب ذلك، حاول إشاعة أجواء التفاؤل ونشر مناخاً ايجابياً حول عملية التأليف، لكن في العمق لا شيء تغيّر، والحسابات السياسية للفريق الحاكم لم تتبدّل، وما عانى منه الحريري يعاني منه أيضاً ميقاتي،. يتفق مع عون على معادلات وتركيبات حكومية معيّنة، الا أنه يصطدم في اليوم التالي بشروط أخرى، فعون لا يمثّل نفسه فحسب، فحين ينتهي اللقاء مع ميقاتي ينصرف إلى التشاور مع باسيل و”حزب الله” ثم يلتقي ميقاتي، فيتنازل الأخير، ويعود عون إلى شروط أخرى وهكذا دواليك!

لم يحدد ميقاتي وقتاً للاعتذار، إلا أنه ذكر مرات عدة أن المهلة ليست مفتوحة، إنما للصبر حدود، لذلك يلعبها “صولد” وأكبر. قد يتنازل ميقاتي في بعض الأمور لكنه ليس “مقطوعاً من شجرة”، وبالتالي يأخذ في الاعتبار الشروط الدولية في تأليف الحكومة، وثوابت الحريري و”تيار المستقبل”، وما قد يريح الشعب من المعاناة، وهنا بيت القصيد.

أولاً، صحيح أن ميقاتي استفاد من الدعم الدولي لتأليف حكومة وفق المبادرة الفرنسية، والجدير بالذكر أن مفهوم هذه المبادرة يخضع للتأويلات لبنانياً، بحيث ينظر إليها الفريق الحاكم على أنها لا تتعارض مع مبدأ المحاصصة، لذلك يتمادى هذا الفريق في اختيار وزراء تابعين للقوى السياسية وليسوا مستقلين. ويبدو أن ميقاتي لمس تساهلاً من المجتمع الدولي وتحديداً فرنسا في مسألة اختيار وزراء محسوبين على القوى السياسية لكن إلى حد معيّن، لا يضرب صفة التكنوقراط، ولو كان الاختيار مقنّعاً. وما يواجهه ميقاتي من شروط يتناقض مع مفهوم التوازن في الحكومة، وهناك اتجاه لدى رئيس الجمهورية بأن يضمن الثلث المعطّل لفريقه السياسي كي يتحكّم بالاستحقاقات المقبلة أو ربما ستكون هذه الحكومة هي البديل في حال تعطّلت هذه الاستحقاقات، وكل شيء وارد في لبنان. من هنا الدعم الدولي لميقاتي ليس بلا حدود، لذا عليه أن يضمن مواصفات معينة للحكومة ترضي عواصم القرار ودول الخليج كي يفتح صندوق المساعدات المالية التي تنقذ لبنان، وليس سراً أن أحد شروط هذه الدول قدرة الحكومة العتيدة على إجراء إصلاحات، فهل ما يطالب به عون وباسيل وحزب الله في التشكيلة الحكومية يسمح بإجراء هذه الإصلاحات وأهمها التهريب وملف الكهرباء؟!

ثانياً، لا يبدو الرئيس الحريري مرتاحاً إلى أجواء تأليف الحكومة، فهو رفض التنازل عن بعض الثوابت للفريق الحاكم وأعاد للطائفة السنيّة مكانتها في المعادلة السياسية، وبالتالي لن يتساهل مع أي مرونة مفرطة قد يبديها ميقاتي. ولا ننسى أيضاً نادي رؤساء الحكومات السابقين الذي ينتمي إليه ميقاتي نفسه، فربما استفاد رئيس “تيار العزم” من بعض الليونة “السنيّة” حيال بعض الحصص والأسماء، لكن على الرغم من ذلك يواجه صعوبات جمّة مع شروط عون. وصدق مَن قال ان عون لن يقدّم لميقاتي ما رفض أن يقدّمه للحريري.

ثالثاً، حاول ميقاتي تقديم نفسه كمنقذ للشعب عبر قبول تكليفه وسعيه إلى تأليف حكومة انقاذية تخفف عن الشعب معاناته، ومرر رسائل إلى الثوار بضرورة دعمه، إلا أن الشعب فاقد الثقة بكل المكوّنات السياسية التقليدية لم يُظهر حماسة لتكليفه، بل على العكس حصلت احتجاجات شعبية عليه، اتهمته بالضلوع في عمليات فساد كالآخرين. ومع ذلك خاض المغامرة بجرأة، وبدا مصمماً على تأليف حكومة قد تنجح نسبياً في حل بعض الأزمات الصغيرة التي قد تكسبه بعض النقاط انتخابياً. إلا أن الوقت ليس لمصلحة ميقاتي والشعب ضاق ذرعاً بعمليات المماطلة ولم يعد مقتنعاً بأنه قادر على فتح ثغرة في جدار الأزمة الحكومية، حتى إنه فقد الثقة بقدرة أي حكومة تتكوّن من القوى السياسية التقليدية على حل الأزمات الحياتية بسبب الخلافات الدائمة بين وزرائها.

لن يخاطر ميقاتي في المزيد من رصيده. وهذا الأسبوع قد يبدو حاسماً لجهة التأليف، لذا قد يكون الاعتذار خياره إذا لم يُظهر رئيس الجمهورية و”حزب الله” إرادة حقيقية في تحرير الملف الحكومي من الشروط، علماً أن الهيكل سيسقط على رؤوس الجميع في مرحلة ما بعد الاعتذار… فهل هذا هو المطلوب يا تُرى؟

شارك المقال