على الرغم من تراجع الاهتمام بالميدان السوري لصالح مناطق توتر أخرى لا سيما غزة وجنوب لبنان، عدا عن الهدوء الذي كانت تشهده سوريا بعد سيطرة الدولة السورية على نسبة كبيرة من الجغرافيا بلغت 63.38%، وتشمل بصورة شبه كاملة المناطق الساحلية والوسطى وجنوب البلاد، بالاضافة إلى بعض المناطق الشرقية ومحافظة حلب وحمص وأجزاء واسعة من حماة. أما “المعارضة السورية” المنطوية تحت لواء “هيئة تحرير الشام” و”جبهة النصرة” وغيرها من الفصائل المدعومة من تركيا، فتسيطر على نحو 10.98% من الجغرافيا السورية، وتتوزع في إدلب وشمال حلب، وفي منطقة تل أبيض ورأس العين في الرقة والحسكة، ومنطقة الزكف والتنف جنوب شرق سوريا. ويبقى الأكراد والقوات المنضوية تحت لواء قوات سوريا الديموقراطية “قسد” المدعومين من الولايات المتحدة والتحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” ويسيطرون على نحو 25.64% من الجغرافيا السورية، وتشمل أجزاء واسعة من محافظة دير الزور والرقة والحسكة، وأجزاء من محافظة حلب.
وشهد العام 2023 مواجهات بين القوات الثلاث إلا أنها لم تغير في خريطة السيطرة لأي منهم، أما اليوم وبينما أصبح الغرب مشغولاً بغزة واحتمال توسع الصراع، بالاضافة إلى التطورات في الميدان الأوكراني وخوف أوروبا من تعاظم قوة روسيا، فيبدو أن التفاهمات الهشة في سوريا تُختبر، بحيث اندلعت الأربعاء الماضي اشتباكات بين العشائر الموالية لدمشق و”قسد”.
وتنقسم محافظة دير الزور عسكرياً بين “قسد” التي تسيطر على الضفة الشرقية والشمالية لنهر الفرات، بما في ذلك حقول النفط والغاز، وأكبرها حقلا “العمر” النفطي و”كونيكو للغاز”، في حين تسيطر القوات الحكومية السورية وفصائل موالية لها على الضفة الغربية للنهر الذي يمر عبر مركز مدينة دير الزور وبلدات الميادين والبوكمال المحاذية للحدود العراقية.
ومساء الخميس، نشر عناصر العشائر العربية المدعومون من النظام السوري، مقاطع فيديو لهم داخل مصفاة “حقل العمر” النفطي عند أطراف بلدة ذيبان في ريف دير الزور الشرقي، وذلك بعد هجوم واسع شنوه على “قسد” في بلدات الصبحة والبصيرة وحوايج ذيبان وأبو حمام وغرانيج في ريف دير الزور الشرقي والشمالي، إلا أن “قسد” استقدمت قوات من القاعدة العسكرية في “حقل العمر” النفطي، وأطلقت حملة تمشيط واسعة بمساندة جوية من القوات الأميركية.
ووصفت دمشق التصعيد الحاصل في دير الزور بأنه احتجاجات أهلية ضد “الادارة الذاتية” ورفض خطواتها الانفصالية.
وقالت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” يوم الجمعة إن “مناطق ريف دير الزور التي ينتشر فيها مسلحو ميليشيا قسد الانفصالية تشهد احتجاجات واسعة من الأهالي ضد هذه الميليشيا المرتبطة بقوات الاحتلال الأميركي، وتنفذ أجندته في التنكيل والاعتداء على الأهالي لإجبارهم على الانخراط بمخططاتهم الانفصالية وإقحام أبنائهم في القتال ضمن صفوفهم”.
إلا أن قوات “قسد” أفادت في بيان “بمقتل 13 مدنياً وإصابة 5 آخرين بعد قصف نفذته قوات حكومة دمشق والدفاع الوطني الموالية لإيران، على بلدتي الدحلة وجديدة بكارة بالريف الشرقي لدير الزور ليل الخميس – الجمعة، راح ضحيتها أفراد من عائلتين، بينهم 6 أطفال ونساء على وقع اشتباكات متواصلة منذ عدة أيّام بين الطرفين”.
وعلى وقع هذا التصعيد في دير الزور، دوت انفجارات فجر السبت داخل قاعدة مطار “خراب الجير” الأميركية بريف الحسكة الشمالي، بما يبدو أنه استهداف طائرة مسيّرة للقاعدة واندلع حريق وتصاعد الدخان من داخلها.
وقال مسؤول أميركي لـ “رويترز” إن “القوات الأميركية في سوريا تعرضت لهجوم بطائرة مسيرة، لكن الأنباء الأولية تفيد بعدم وقوع إصابات جراء ذلك”. وأشار الى أن “الأنباء الأولية لا تشير إلى وقوع أي إصابات لكن التقييمات الطبية جارية. نجري في الوقت الراهن تقييماً للأضرار”.
ولا يمكن حسم ارتباط التصعيد في دير الزور والضربة في الحسكة، إلا أن العديد من المراقبين يربط بين الأمرين، وذلك لما من مصلحة لدمشق وحليفتها طهران باستعادة السيطرة على بعض المناطق الاستراتيجية في هذا الحزء من سوريا، لا سيما أن دمشق وحلفاءها يشددون على وحدة سوريا كاملة.
وقد فشلت الوساطة التي تقودها موسكو لتهدئة التصعيد في الشرق السوري، وقالت مصادر محلية في دير الزور إن قيادات روسية تحاورت مع قيادات في “قسد” في مدينة القامشلي لتهدئة الأوضاع، وطلب الجانب الروسي فك الحصار عن المربعات الأمنية التابعة لحكومة دمشق في مدينتي الحسكة والقامشلي، التي أغلقت الطرق اليهما، وفي المقابل طلبت “قسد” وقف تجاوزات القوات الحكومية والاعتداء على نقاط “قوات سوريا الديموقراطية” العسكرية، وقد عزت مصادر “قسد” فشل المفاوضات إلى الانحياز الروسي لدمشق، إلا أن صحيفة “الوطن” السورية أفادت بأن سبب الوساطة الروسية هو وضع “قسد” شروطاً “لا يمكن تحقيقها” ورفض ممثلي الجهات الحكومية لتلك الشروط.
ونقلت وكالة “سبوتنيك” عن قائد القوات الروسية في سوريا الفريق سيرغي كيسيل قوله إنه التقى قائد “قسد” مظلوم عبدي، في وساطة لإنهاء حصار “قسد” للمربعات الأمنية داخل مدينتي الحسكة والقامشلي ووقف التصعيد في دير الزور.
وفشل المفاوضات قد يشي بمزيد من التصعيد في الفترة المقبلة، على وقع تحول الأولويات إلى غزة وجنوب لبنان، مع ازدياد المخاوف من توسع الحرب في الشرق الأوسط، وفي حال وصلت المنطقة فعلاً إلى حرب شاملة، ستكون منطقة شرق سوريا وسط العاصفة، ولعل هذا السبب هو الذي يجعل ايران وحلفاءها يعفون سوريا من رد طهران و”حزب الله” على الاغتيالات الاسرائيلية الأخيرة، وقد لمح الأمين العام للحزب الى ذلك في خطابه الأخير.