fbpx

عون – باسيل… ليس من بيت أبي!

أنطوني جعجع
تابعنا على الواتساب

ماذا بقي من “التيار الوطني الحر” بعد خروج أربعة من أركانه الكبار من كتلته النيابية؟ وماذا بقي من الرئيس ميشال عون بعد خروجه من قصر بعبدا الى تقاعد “غير مريح” على المستوى الحزبي و”غير مؤثر” على المستوى السياسي؟

الجواب يستند الى حقيقة واحدة وهي أن معظم الأحزاب اللبنانية يتبنى مدرسة واحدة ويدرس في كتاب واحد، كما هي حال معظم الحكام في هذا الشرق، أي ابقاء السلطة في قبضة رجل واحد ووضع المحازبين بين خيارين لا مكان فيهما للحيادية، وهما اما الولاء والمكتسبات واما العمالة والعقوبات.

الجواب أيضاً، أن هذا الواقع لا ينطبق على أحزاب يديرها البعض دون سواه، فالمسلمون، ومنهم نبيه بري تخلى، من بين الذين تخلى عنهم لأسباب بعضها معلوم وبعضها مجهول، عن محمد عبد الحميد بيضون ومحمد عبيد على سبيل المثال، ومنهم حسن نصر الله الذي تخلى عن النائب نواف الموسوي، والمسيحيون، ومنهم أمين الجميل الذي أقال النائبين لويس أبو شرف وادمون رزق، وسمير جعجع الذي أقال جان تولوزيان وقيصر معلوف، وجبران باسيل الذي أقال النائبين آلان عون والياس بو صعب، من دون أن ننسى أن بعض الأحزاب اتبع سياسات التصفية الجسدية في اطار الصراعات على النفوذ والسلطة تحت شعار وحدة القرار وسلامة القضية الجوهرية.

أضف الى ذلك، أن الحكومات في لبنان لا تتوانى عن انتهاج سياسات الاقالة والفصل، ومنها حكومة الرئيس رفيق الحريري التي أقالت بتنسيق مع الرئيس الياس الهرواي وبضغط سوري مباشر، وزير الطاقة آنذاك جورج افرام اضافة الى مراحل شهدت ملاحقات واقالات شملت من بين من شملت النائب يحيى شمص والوزير الأرمني شاهيه برصوميان.

وبعيداً من الأسباب الموجبة لكل عمليات الطرد والاقالة من هنا والتصفيات والعزل من هناك، يتفق المراقبون في الداخل والخارج على أن “الديموقراطية الحزبية” في لبنان شعار فارغ لا يؤمن جدياً بالحوارات الداخلية الاستيعابية التي يمكن أن تثمر تفاهمات بقدر ما يؤمن بالاجراءات الحازمة التي تثمر “دروساً” تقضي على حق الاعتراض من جهة، وحق الاختيار من جهة ثانية، الأمر الذي يضع رؤساء الأحزاب اللبنانية في خانة الرؤساء العرب الذين كانوا يؤمنون بأن الاعتراض مؤامرة والنقد عصيان وابداء الرأي خروج على سلطة القرار الواحد أو الرجل الواحد.

وهنا لا بد من السؤال ماذا بعد؟ هل يشعر جبران باسيل بأي ذنب أو هواجس بعد تراجع كتلته من ١٨ نائباً الى ١٤؟

الواقع أن باسيل خاطر برصيده النيابي الوازن في البرلمان واختار البقاء على رأس كتلة تقول نعم أكثر مما ترجح كفة على كفة في مفاصل جوهرية أساسية، وتحوّل من رئيس لنوابه الأربعة “الخوارج” الى خصم مباشر لا يستطيع الانتصار عليهم ولا الانكسار أمامهم، فيما تحولوا هم الى أضداد، لا بل الى ما يشبه “الذئاب” البرلمانية المنفردة التي لا تطيع أحداً في المطلق ولا يديرها أحد في المبدأ.

وما يساعد هؤلاء “الخوارج” على البقاء في دائرة الأمان، أن أحداً لا يستطيع اقالتهم ولا تجاهلهم أو التقليل من شأنهم بعدما تحولوا الى كتلة مسيحية جديدة قابلة للتمدد والاتساع وبعدما أيقن “حزب الله” ومعه حركة “أمل”، أن قوتهما النيابية التي أعقبت الانتخابات الأخيرة الى تناقص وكذلك فرص المرشح سليمان فرنجية، وبعدما أيقن سمير جعجع وقوى المعارضة، أنهم لن يكسبوا أعضاء جدداً ولا أصواتاً زائدة لمصلحة المرشح الذي يختارونه سواء كان جهاد أزعور أو سواه.

وسط هذا الواقع الجديد، يحاول الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل التقليل من شأن ما جرى داخل “التيار” من باب المكابرة ليس الا، علماً أنهما يدركان في كواليسهما أن ما فعلاه وما ألصقاه بالنواب الأربعة من تهم ومآخذ، لن يؤثر سلباً لا في موقعهم النيابي ولا في موقعهم الشعبي ما دام حساب الشارع لا يزال بعيداً.

ويقر مقربون من الرابية بأن عون بات الآن أمام سلسلة من الصراعات والاحراجات، فهو لم يعد قادراً على محاكاة “حزب الله” من بوابة العددية النيابية التي يعوّل عليها في محاولة السيطرة على قصر بعبدا مجدداً، ولا قادراً على التغني بقيادة أكبر كتلة نيابية مسيحية، ولا التنافس مع “القوات اللبنانية” التي تحولت الى الكتلة المسيحية الأكبر والأكثر تأثيراً في أي تصويت يعني أي قضية مسيحية وفي مقدمها رئاسة الجمهورية.

وأكثر من ذلك، يدرك عون أن ما جرى فتح عليه باباً موصداً كان يظنه لا ينفتح أبداً، وهو باب الاتهامات التي بدأت تضربه مع صهره “من بيت أبيه”، وتنزع عنه ما بقي من هيبة ومصداقية في شارع طالما آمن به حتى حدود “العبادة”، ومدركاً، ولو متأخراً، أن ما كان قادراً على فعله مع رفاقه ومحازبيه لا يمكن تجييره الى صهره الذي لا يحظى بما يحظى به من شعبية وهيبة ورصيد شخصي.

ويذهب مصدر في “التيار” بعيداً الى حد القول: “لقد أعطينا عون كل شيء ولم نبخل بشيء، فأعطانا في المقابل صهراً جامحاً لا حزباً جامعاً”، مشيراً الى أنه كان حريصاً على خليفة يدين له بالولاء المطلق لا قيادة تملك ولو الحد الأدنى من السلاسة والشراكة والرأي الحر.

ونعود هنا الى السؤال الأول وماذا بعد؟ من يخلف هؤلاء الأربعة في الانتخابات النيابية المقبلة؟ ومن يستفيد من الفراغ الذي يمكن أن يخلفوه على مستوى الشارع البرتقالي؟

الجواب أن ما يتردد عن تغييرات جذرية في التركيبة النيابية المقبلة سابق لأوانه لا بل مبالغ فيه، خصوصاً أن من يحسم مصير الكثير من المقاعد ليسوا المسيحيين وحدهم بل المسلمون أيضاً وفي مقدمهم الشيعة الذين يرون في التزام التفاهم مع جبران باسيل خياراً أوحد وأفضل وأسهل من أي خيار آخر، معتبرين أن أي تقاعس في هذا المجال سيصب في مصلحة سمير جعجع والمعارضة وكتلتهما النيابية.

والواقع أن باسيل يعرف ذلك ويتصرف وكأن ما جرى ليس زلزالاً بقدر ما هو تطهير طاول بعض الشوائب، هامساً في كواليسه أن “حزب الله” المحرج والمعزول بعد “طوفان الأقصى”، لا يستطيع الاستغناء عنه في جبيل وبعبدا وجزين والبقاع، ومؤكداً في الوقت نفسه أنه لن يسمح لهؤلاء النواب باجراء أي تغيير في ميزان القوى داخل البرلمان حتى لو اضطر الى المماطلة في موضوع الرئاسة الأولى حتى موعد الانتخابات المقبلة.

وسط هذه الأجواء، يحاول باسيل التقليل من شأن خسائره الداخلية من خلال خطاب سياسي جديد يدغدغ مشاعر المسيحيين المحبطين والخائبين والقلقين، ويضعه في خانة القيادات الوطنية الحرة وغير المرتهنة لأي خط أو محور، وفي خانة الحيثية التي لا يمكن لأحد احتواءها أو الغاءها.

ووسط هذه الأجواء، يسعى الجميع في مجلس النواب الى أي فرصة يمكن أن تسمح لهم باستيعاب النواب الأربعة، ومنهم الثنائي الشيعي و”القوات اللبنانية” التي لا يستبعد البعض أن تنفتح على النائب ابراهيم كنعان، و”جبهة الاعتدال الوطني” التي تحاول التواصل معهم من خلال النائب نعمت افرام، وكتلة النواب المستقلين التي ترى فيهم ما يمكن أن يحولهم الى بيضة القبان أو “الصوت الواحد” الذي يحسم اسم الرئيس العتيد.

لكن التمنيات شيء والواقع شيء آخر، يقول العارفون بشخصية النواب الأربعة، مؤكدين أنهم ليسوا من طينة النواب الذين يمكن تجييرهم بسهولة، بل من الطينة التي ينظر ثلاثة منهم الى أنفسهم كمشاريع رؤساء لا كمشاريع ناخبين، الأمر الذي يفسر الصمت الذي يسود الضاحية وعين التينة ومعراب والصيفي وبنشعي حيال ما جرى داخل التيار وما يمكن أن يجري خارجه.

انها في اختصار، الذهنية المتفردة التي تسود معظم القادة اللبنانيين الذين يؤمنون بأن قوة الحزب هي من قوتهم، وأن أي خلل في هذه القوة يعني السقوط الكبير.

وانها في اختصار أيضاً، أن باسيل الذي اعتبر أن الاستغناء عن هؤلاء الأربعة العصاة سيزيده تحرراً وقوة، أدرك أن ما جرى زادهم قوة وتحرراً ونقلهم من خانة تلقي التعليمات والأوامر الى خانة المشاركة في صنع القرارات وترجيح الموازين بعيداً من أي ولاءات قديمة أو جديدة.

انه هذا الجزء من هذا الشرق، أي الجزء التقليدي الثابت والمزمن الذي يعتبر “الديموقراطية” في لبنان مدخلاً الى السلطة المطلقة، ويعتبر الديكتاتورية في الجوار مدخلاً الى السلطة الأبدية.

شارك المقال