احتل “حزب الله” حيّزاً مهماً من كلمة رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، وهذا أمر بديهي، ليس إعجاباً به إنما لأنه السبب في مرض أصاب الكيان اللبناني ويكاد يُدمّره، لكن ثمّة من يُحاول أن يصوّر الخصومة السياسية بين جعجع من جهة و”الحزب” من جهة أخرى، كأنها خصومة طائفية لدغدغة مشاعر بعض أبناء الطائفة الشيعيّة الكريمة كي لا يتقبّل كلام رئيس “القوات” بل يشكّل له عامل استفزاز يصل إلى الكراهية. وحتماً الثنائي الشيعي ليس بريئاً من هذا التحريض الذي دأب عليه منذ خروج جعجع من السجن عام 2005، نظراً إلى أن الأخير يدلي بمواقف حادة وحازمة ضد مشروع “الحزب” الذي يعطّل قيام الدولة الفعليّة.
في الواقع، لا مشكلة بين جعجع و”الشيعة”، بل هو غالباً ما يتوجّه اليهم كشركاء في الوطن على قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين كما ينصّ عليها الدستور، إلا أن في خلفيّة جعجع الفكريّة أن الثنائي يمثّل عدداً كبيراً لا يُستهان به من الشيعة، وهذا أمر لم ينكره يوماً، وهو يمنّي نفسه بأن يُدرك اللبنانيون من الطائفة الشيعية أن مشروع الممانعة لا علاقة له بلبنان التاريخي والتعايش الوطني والدولة العصرية النهضوية اقتصادياً وتجارياً وعلمياً وثقافياً.
المؤسف أن “الحزب” عسكر المجتمع الشيعي، حتى أن بعض المفكّرين الشيعة الطليعيين في لبنان بات مقتنعاً بأن هناك نواة عقائدية ايرانية الهوى، خضعت لتنشئة دينية مستمرة على مدى عقود، وهذه النواة على الرغم من أنها لا تشكّل غالبية الطائفة الشيعية إلا أنها منغلقة على هوية ايديولوجية مقفلة ولا تتقبّل النظر إلى الآخر المختلف. وبنتيجة التنشئة التي خضعت لها، فإن الصورة التي تمّ تقديم الدكتور سمير جعجع فيها يجري اعتمادها كما هي من دون اخضاعها للفحص. وقد عملت شخصيات سياسية ودينية مقرّبة من الثنائي الشيعي على شيطنة صورة جعجع من دون أي دليل أو مبرر خلافاً للواقع والحقيقة.
واللافت أن جعجع في كلمته منذ يومين، وجّه بـ”ذكاء” بعض الرسائل إلى الشيعة، مؤكداً لهم أن سلاح “الحزب” لا يحميهم بدليل ما يحصل في الجنوب والخسائر المادية والبشرية التي تكبدّوها نتيجة “حرب الإسناد”، ودعاهم إلى الانضواء تحت كنف الدولة الفعلية العادلة والقادرة التي تضمن وجود جميع اللبنانيين. ويُعتبر هذا كلاماً متقدّماً في الحوار الاعلامي مع الشيعة الخائفين على مصيرهم نتيجة مغامرات “الحزب”، على الرغم من أن وجدانهم لا يزال مرتبطاً به.
وأظهر جعجع مرونة “مشروطة” حيال “الحزب” حول ضرورة تحليه بشجاعة الموقف الوطني الصحيح لا القتال فقط، وحمّله مسؤولية كل الخراب والدمار أمام جمهوره وجميع اللبنانيين. وتحدّث بوجدانية واضحة عن عائلات شهداء “الحزب” وجراحهم معرباً عن حزنه لخسائرهم كونهم شركاء في الوطن، وكذلك هذا كلام متقدّم يُبنى عليه إذا صفت النوايا.
لكن رد فعل الثنائي الشيعي على انفتاح جعجع “النسبي” كان مخيباً للآمال، إذ دُفِعَ بالمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان إلى مهاجمته وانتقاده على خلفيّة ماضي الحرب والتخوين في مسألة العلاقة مع اسرائيل، مستخدماً لغة خشبيّة منفّرة تقطع كل الجسور مع الآخر، إضافة إلى مواقف من شخصيات سياسية ووسائل اعلام تدور في فلك “الحزب” قامت بهجوم مبرمج على جعجع و”القوات”.
لكن المفكرّين الشيعة المتحررين من “الحزب” يعتبرون أن الحملة على جعجع ليست من شخصيات دينية عقائية مرتبطة بـ”الحزب” وحسب، إنما هناك نواة عقائدية في الطائفة الشيعية من نوع آخر، ويبدو أن هذه الفئة لم تتجاوز بعد ذاكرة الحرب الأهلية، تعيش في الماضي ولا تنظر إلى المستقبل، ما يفقدها فرصة ثمينة للتعاون مع جعجع من أجل بناء مستقبل أفضل. ويمثّل هذه الفئة شيوعيون ويساريون يحملون الماضي الثقيل ويستحضرونه (كالعلاقات مع اسرائيل وتاريخ الرئيس الشهيد بشير الجميّل)، وبالتالي يستفيد “الحزب” منهم كونهم يخدمونه موضوعياً.
أما الفئة الثالثة من الطائفة الشيعية، فشاركت في انتفاضة 17 تشرين، وهي تحمّل جعجع ما لا يحمله من مسؤولية جراء المشاركة في السلطة تحت شعار يؤدي إلى التضليل وضياع المسؤولية الحقيقية عن خراب البلاد أي شعار “كلّن يعني كلّن”.
وهناك فئة أخرى من السياسيين الشيعة التقليديين تنظر بانتهازية إلى “القوات” أي أنها تريد المحاربة بـ”القوات” ضمن مشروع ظرفي كالانتخابات.
والفئة الأخيرة فئة من النخب التي استطاع جعجع مخاطبتها عبر مشروع الدولة والغد الأفضل، ووجدت في كلمته الأخيرة وطروحه منذ عام 2005 بارقة أمل لبناء لبنان الجديد، على الرغم من عددها غير الكبير، إلا أنها تتلقّف مبادرات جعجع والمعارضة وتتطلع إلى شراكات استراتيجية مثل العلامة السيّد علي الأمين ورئيس حركة التحرر الشيعي الدكتور علي خليفة والكاتب السياسي أحمد عياش وغيرهم.
من المؤكّد أن جعجع لن يتخلّى عن ثوابته، ربما يبدي بعض المرونة لإستقطاب المزيد من الجمهور الشيعي واللبنانيين كافة، إلا أن تاريخه واضح من حيث الالتزام بالثوابت، وقد اختار الدخول إلى السجن كي لا يساوم على قناعاته السياسية. والواقع يشير إلى أن المستقبل قد يشهد المزيد من التشنّجات بين “القوات” و”الحزب”، وخصوصاً أن لبنان مُقبل على استحقاقات مصيريّة، ومشروعا الممانعة والمعارضة في لبنان يسيران على خطين متوازيين من الصعب أن يلتقيا!