مجزرة كابول… أين ترد أميركا؟ 

أنطوني جعجع

لا يبدو أن حكم “طالبان” في أفغانستان سيكون “نزهة” كما كانت عودتهم إلى الحكم، بعد عشربن عاماً على الهزيمة. ولا يبدو أيضاً أن الانسحاب الأميركي سيكون خبراً ساراً للإيرانيين والممانعين الذبن حاولوا تصوير هذا الانسحاب على أنه هزيمة تشبه ما أصاب الأميركيين في فييتنام في سبعينيات القرن الماضي.

فما جرى في مطار كابول، أعاد خلط الأوراق في شكل دراماتيكي، وكاد يقيم “تحالفاً” غير مقصود بين “طالبان” المحرجة وواشنطن الجريحة ويوحدهما في مواجهة عدو مشترك هو تنظيم “داعش”.

وما جرى هناك، أحبط فرحة الممانعين الذين أدركوا أن المبرر الذي سحب الأميركيين من الجار الأفغاني، أي القضاء على تنظيم “القاعدة” وزعيمه أسامة بن لادن، قد يعيدهم إليه، ولو بطرق مختلفة، من خلال تنظيم الدولة الإسلامية.

وما أسهم في هذا الانطباع سرعة التحرك العسكري الأميركي ضد أوكار “داعش” في شرق أفغانستان، وانطلاق دعوات للأميركيين إلى وقف خطط الانسحاب من كل من سوريا والعراق، وهي خطط كانت تراهن عليها طهران للتفرد بالقرار العسكري والأمني من إيران إلى البحر المتوسط،  على غرار ما تتنعم به في لبنان وغزة وقسم كبير من اليمن.

والواقع، أن من هُزم في أفغانستان ليس الجيش الأميركي الذي يعتبر أنه أنجز المهمة التي جاء من أجلها قبل عشرين عاماً، وأن مصالحه في هذه الدولة باتت في أيد أمينة وحليفة معاً، بل الجيش الأفغاني الذي تهاوى بسرعة قياسية ليُسقط معه دُفعة واحدة الديمقراطية التي أرساها الأميركيون من جهة، والحكومة المدنية من جهة ثانية، وخطط الإجلاء التي كانت واشنطن في صدد تنفيذها مع حلفائها وفق وتيرة منظمة ومدروسة من جهة ثالثة، قبل أن تتحول إلى قوة محاصرة من قوات “طالبان” من كل الجهات وهدفاً مكشوفاً للانتحاريبن الخارجين من السجون الأفغانية حديثاً.

والواقع أيضاً أن الانسحاب الأميركي من كابول لم يتم تحت ضغط عسكري من “طالبان” كما كان الأمر في سايغون الفييتنامية، أو تحت ضغط سوريا و”حزب الله” والحركة الوطنية في بيروت في العام ١٩٨٣، بل نتيجة قرار سياسي اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب ووضع له بالاتفاق مع “طالبان” جدولاً زمنياً ينتهي في الحادي والثلاثين من آب العام ٢٠٢١.

ويصر خبراء عسكريون في كل من الصين ودول الاتحاد السوفياتي السابق، على أن “داعش” لم تنتقم من الأميركيين بقدر ما أحرجت “طالبان” وأربكت الإيرانيين والممانعين،  مؤكدين أن “مجزرة المطار” أحبطت الاستراتيجية الديبلوماسية التي كان يتمسك بها الرئيس جو بايدن لحلحلة الملفات الساخنة، ودفعته إلى ارتداء ثياب القتال للدفاع عن هيبتين: هيبة الجيش الأميركي وهيبة القيادة السياسية في واشنطن، وهي الهيبة التي بدأت تتلقى حملات تشكيك متواصلة وصلت إلى حد دعوته إلى الاستقالة.

وأضاف هؤلاء أن المجزرة وضعت “طالبان” في الزاوية ورسمت أكثر من علامة استفهام حيال قدرتها على إدارة بلاد خالية من الخلايا الإرهابية.

ولا يستبعد هؤلاء أن يعمد بايدن إلى القيام بعمل عسكري لافت في مكان ما وضد هدف ما في أي لحظة، لاستعادة الثقة بالجيش والرئاسة معاً، وقطع الطريق على من يظن الوقت مناسباً للانقضاض على المصالح الأميركية حيث يكون ممكناً.

ويعود هؤلاء بالذاكرة إلى ما جرى بعد أيام على مجزرة المارينز في العاصمة اللبنانية، عندما أمر الرئيس الراحل رونالد ريغان بغزو جزيرة غرينادا، بذريعة التخلص من مطار عسكري تبنيه كوبا، محاولاً بذلك تحويل الأنظار عن المجزرة التي كبدته ٢٤١ قتيلاً من قوات النخبة.

وهنا يطرح السؤال: اين يمكن أن ترد أميركا؟ 

الأهداف كثيرة، تبدأ بتنظيم “داعش” في أفغانستان والعراق وسوريا وتعرج على البرنامج النووي الإيراني، وتصل إلى “حزب الله” الذي تتهمه واشنطن بالتورط مع طهران ودمشق في قتل جنودها في بيروت من جهة،  وتهديد أمن إسرائيل من جهة ثانية، وأمن القوات الأميركية في المنطقة من جهة ثالثة، والسيطرة على لبنان من جهة رابعة، وانتهاك العقوبات الأميركية والقرارات الدولية من جهة خامسة،  وزعزعة الأنظمة الحاكمة في الخليج من جهة سادسة، فضلاً عن تهديد عملية السلام بين العرب وإسرائيل من جهة سابعة.

ولا يبدو التنسيق الذي تزامن مصادفة مع مجزرة كابول، بين الرئيس الأميركي ورئيس وزراء إسرائيل بعيدا من بنك الأهداف هذا، ولا يبدو أيضاً أن الاستنفار الإيراني الذي أعقب هذا اللقاء وما صدر عنه من تصريحات استفزازية، بعيداً من أجواء الترقب التي تسود الأوساط المعنية في طهران والضاحية الجنوبية معاً، خصوصاً مع انطلاق ناقلة النفط الإيرانية في اتجاه البحر الأبيض المتوسط، ومع تصاعد المخاوف الإقليمية والعالمية حيال التقدم السريع في طموحات إيران النووية  إضافة إلى قمة بغداد التي أبعدت سوريا وأنهت الاحتكار الإيراني في الشأن العراقي وفتحت أبواب بلاد ما بين النهرين أمام الأردن ومصر ودول الخليج، وكل من تركيا وفرنسا.

وفي انتظار ما قد تقدم عليه الولايات المتحدة، لا بد من السؤال عما ينتظر “طالبان” غداة العودة إلى جنة الحكم بذهنية أكثر اعتدالاً وانفتاحاً ولو في الظاهر على الأقل.

يقول محللون استراتيجيون إن الانتصار شيء والمحافظة على هذا الانتصار شيء آخر، مؤكدين أن أفغانستان اليوم ليست أفغانستان الأمس، فالمطلوب الآن مواجهة العقبات الآتية:

– القضاء على الديمقراطية التي رسخها الأميركيون في النفوس والنصوص، واستبدالها بحكم الشريعة الإسلامية المتشددة.

– القضاء على النزعة الثورية والتحررية التي ترسخت لدى النساء والطبقات الثقافية التي نهلت من المدرسة الغربية على مدى عشرين عاماً.

– ملاحقة الأجهزة الأمنية والاستخبارية والعسكرية التي تعاونت مع حلف الاطلسي، والتأكد من أنها لن تنتظم مستقبلاً على شكل معارضة مسلحة، أو جسر عبور لأي غزو جديد.

– العمل لإخماد الثورة التي يقودها نجل القائد الأفغاني الراحل شاه مسعود في وادي بانشير، وهو الوادي الذي كان العقبة الأساسية أمام السيطرة السوفياتية المطلقة على هذه الدولة الآسيوية المجاورة.

-السعي إما لضبط تنظيم “داعش” ومنعه من ارتكاب ما ارتكبه تنظيم “القاعدة”، وإما العمل للقضاء عليه.

– الحرص على قطع الطريق أمام أي نفوذ باكستاني يكون بوابة غير مباشرة للأميركيين، وأي نفوذ إيراني من خلال المجموعات الشيعية التي تأتمر في معظمها بأوامر طهران، فضلاً عن الطموحات الأخرى التي تتخمر في كل من الصين والهند وتركيا وحلفاء روسيا في القارة الآسيوية.

– العزلة الدولية التي بدأت تطل برأسها من خلال التلويح بوقف المساعدات والقروض والاستثمارات التي يحتاج اليها الاقتصاد الأفغاني المرهق أصلاً.

إقرأ أيضاً: أفغانستان: انعكاس سريع وأحلام “من ورق”

وبعيداً من هذه السلبيات، لا بد من سؤال معاكس: هل يواجه العالم اليوم وجهاً جديداً من وجوه “طالبان”، أي الوجه الذي يمكن أن يبني مع الأميركيين ما بناه الفييتناميون بعد الحرب، أم الوجه الذي لا يمكن له أن يتغير،  بحيث يكون قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة من خلال احتضان ما يمكن أن يكون بن لادن آخر،  على غرار إيران التي تكثر من اللعب بالنار في ارض مفخخة لم تعد تحتمل لا التمهيد لبناء أمبراطوية فارسية على أسس مذهبية تبتلع لبنان وسوريا والعراق واليمن،  ولا شراء الوقت للانتهاء من بناء قنبلة نووية إيرانية تراقبها أميركا وتتربص بها اسرائيل ويتوجس منها الخليج؟

وأخيراً أيضاً، هل يتمكن بايدن من الاكتفاء بعمل عسكري صغير انتقاماً لثلاثة عشر جندياً أميركياً سقطوا دفعة واحدة ومن دون قتال، أم يجد نفسه مضطراً للضرب بقوة في أكثر من مكان، قبل أن يتلقى مزيداً من الضربات من أكثر من مكان؟

شارك المقال