لم يعد ينفع الكلام أو التوقعات عن موعد اندلاع الحرب الواسعة بين “حزب الله” والعدو الصهيوني فهي وإن كانت منضبطة طيلة الفترة الماضية، إلا أنها بعد تجاوز جيش العدو وبقرارات من قيادته السياسية كل قواعد الاشتباك، يكون عملياً قد قرّر توسيع الحرب والحجة الوحيدة لديه هي إعادة مستوطنيه المحتلين لشمال فلسطين إلى منازلهم.
وكان رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو أعلن قبل يومين أنه اتخذ مع مجلس وزرائه قراراً بتغيير الوضع في شمال فلسطين المحتلة ما يعني أنه ضمناً يريد تحويل جنوب لبنان إلى ما يشبه شمال قطاع غزة الذي أباده وأصبح منطقة غير قابلة للحياة، وهو ما شرع في تنفيذه منذ أول من أمس الاثنين، بحيث أن عدد الغارات التي شنها طيرانه على البلدات والمدن الجنوبية وبعمق وصل على أقل تقدير إلى 10 كيلومترات، لم يسبق له مثيل منذ حرب تموز 2006، ونسبة الدمار التي لحقت بكل البلدات على هذا العمق لا يمكن تصورها، ناهيك عن أن كل سكان هذه البلدات والمدن أصبحوا نازحين في الداخل اللبناني.
وقد يكون هدم المناطق الحدودية أحد أهداف خطة المجرم الصهيوني، غير أن جرائمه أخذت أبعاداً أكثر حدة عندما صار يستهدف قرى ومدناً في البقاعين الشمالي والأوسط، وينفذ عمليات اغتيال دقيقة في عمق الضاحية الجنوبية لبيروت التي هي معقل “حزب الله” وبيئته الحاضنة.
واستناداً الى تقارير إعلامية مختلفة، فإن العدو الصهيوني شنَّ ما يقارب ألف ومائة غارة جوية استهدف من خلالها ما يزعم أنها أهداف عسكرية لـ “حزب الله” ومستودعات لأسلحته، غير أن واقع الحال لا يشي إلا بأن الهدف كان تهجير أكبر ما يمكنه من مواطنين جنوبيين وبقاعيين إلى الداخل اللبناني لزيادة الضغط على الحزب ودفعه إلى فصل جبهة الاسناد الجنوبية عن جبهة غزة، وهو هدف صرّح به نتنياهو أيضاً.
لكن ماذا كان الرد الذي جاء على لسان الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله؟ لن تقف الجبهة الجنوبية قبل وقف العدوان على غزة، وإذا كان بإعتقاد العدو الصهيوني أنه بتوسيع جبهة الحرب واستهداف المدنيين اللبنانيين سوف يكون قادراً على إعادة المستوطنين الشماليين، فهو مخطئ ولن يعودوا.
وعلى الجبهة نفسها، صرّح نائب الأمين العام لـ “حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، خلال تشييع المسؤول العسكري الكبير في الحزب إبراهيم عقيل، بأن المعركة مع العدو دخلت مرحلة “الحساب المفتوح”. ويبدو أن الشيخ قاسم كان محقاً، فدفتر الحساب مع العدو بالنسبة الى “حزب الله” أصبح مليئاً بالدم، ليس دم عناصر الحزب ومسؤوليه فحسب، بل طال هذا الدم الأبرياء والمدنيين.
عند هذا الحد، هل يمكن لأحد بعد الزعم أن الحرب بين “حزب الله” والعدو الاسرائيلي ليست واقعة ومفتوحة وموسعة؟ إنها الحرب بكل ما تعنيه الكلمة، والمناشدات التي تصدر على لسان مقربين من محور المقاومة بالثأر وتحريك الآلة العسكرية الضخمة التي بناها “حزب الله” منذ حرب تموز 2006 تضع السيد نصر الله أمام موقف تاريخي عليه اتخاذه: هل ينجر إلى الفخ الذي يريده نتنياهو فتتوسع المجابهات وتنجر إليها القوى الأخرى في المنطقة من إيران إلى الحشد الشعبي العراقي والحوثيين في اليمن ما يدفع حكماً الولايات المتحدة الأميركية التي وصلت بترسانة كبيرة إلى المنطقة الى التدخل “للدفاع عن أمن إسرائيل”؟
إن الحرب الشرسة والدموية التي ينفّذها نتنياهو لن تحقق أياً من الأهداف التي يتحدث عنها، أي أنه طالما لم يتمكن هو وجيشه من زعزعة البنية العسكرية وسلسلة القيادة لدى الحزب على الرغم من كل الضربات الموجعة التي تلقاها، لن يتمكن من تأمين عودة المستوطنين المحتلين إلى شمال فلسطين المحتلة، وهو كما لم يقدر على أن يحقق الهدف الذي أعلن عنه في غزة أي القضاء على حركة “حماس” وبنيتها العسكرية، فإنه سيكون عاجزاً عن تحقيق هدفه في لبنان، اللهم إلا إذا وفي لحظة تخلٍّ انطلق “حزب الله” إلى المعركة الكبرى وهو سيجد نفسه عندها مرغماً على خوض المعركة حتى آخر نفس لكن من دون مساندة حقيقية من إيران أو دول المحور الأخرى.
كان لافتاً الكلام الذي نقل عن الرئيس الايراني “الاصلاحي” مسعود بزشكيان من نيويورك إن “حزب الله” غير قادر على مواجهة إسرائيل بمفرده. لكن هذا الكلام حمّال وجهين، فهو ربما قصد أن إيران في لحظة معينة ستجد نفسها مرغمة على مساندة “حزب الله” في مواجهته مع إسرائيل، وإما أن إيران التي تخوض جولة متقدمة من المفاوضات “النووية” مع الولايات المتحدة سوف تترك الحزب يواجه مصيره بمفرده.
في الحالتين، فإن “حزب الله” كما هو مؤكد لم يستخدم بعد كامل ترسانته وقوته الصاروخية في وجه إسرائيل، وهذا يشي بأن الحرب ستكون طويلة والخاسر فيها سيكون من يقول “آخ” أولاً، ولغاية اليوم لا يبدو أن الحزب في وارد القبول بالخسارة على الرغم من كل محاولات العدو الاجرامية.
لكن المؤكد الوحيد هو أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هو لبنان وشعبه، وعلى الرغم من كل التضامن الذي عبّرت عنه مختلف أطياف اللبنانيين نتيجة الجولة العنفية الدموية الكبرى التي شنها العدو الصهيوني على الجنوب والبقاع ودفعت مئات الآلاف من الجنوبيين والبقاعيين إلى النزوح إلى أماكن آمنة، إلا أن جنون نتنياهو قد لا يجعل مكاناً آمناً في لبنان، والعالم بأكمله يقف موقف المتفرج إذ إن الهدف المرسوم قد يكون القضاء على “حزب الله” وهذا أمر مقبول من كل الغرب بدءاً من الولايات المتحدة وصولاً إلى أوروبا، ما يفسّر الصمت المريب الذي رافق الغارات الاسرائيلية على لبنان من دون أن يتحرّك أي من زعماء الغرب لادانته أو التعبير عن سخطه.
إنها الحرب والقاعدة تقول إنه في نهايتها سيكون هناك رابح وخاسر وتسوية.
حمى الله لبنان وأهله.