تتسارع وتيرة الحرب يوماً بعد يوم، بحيث تتراجع المعادلات والحلول الديبلوماسية لمصلحة الصواريخ والمسيّرات والطائرات الحربية، ويتساءل كثيرون ما هي حقيقة موقف الولايات المتحدة الأميركية من جهة وإيران من جهة أخرى، علماً أن ما يشهده الرأي العام اللبناني عبر وسائل الاعلام يُمكن وضعه في خانة “الغزل” بين الجانبين، وكأن لا حرب في لبنان ولا أبرياء يستشهدون ولا مواطنين يهجّرون من بيوتهم! لذلك يلعن الكثير من اللبنانيين، وحتى من داخل بيئة “حزب الله” إيران وتجارتها بمصير الشعوب واستقرارها، فيما “الحزب” قرّر الاستمرار في المواجهة بدلاً من الإنكفاء وقراءة المتغيّرات في المنطقة. لكن قد يكون ذلك مبرراً بالنسبة إليه، لأن لا أحد يهوى الإنتحار، إلا إذا كانت المواجهة التي يخوضها معركة وجود، وهي كذلك بالنسبة إليه.
فماذا يحصل مع “الحزب”؟
ليس سراً أن الولايات المتحدة الأميركية وإيران لا تريدان الحرب، وتمكّنا حتى نهاية شهر آب من المحافظة على “الميني” حرب بضوابط معيّنة في الجنوب اللبناني، مع تفعيل القنوات الديبلوماسية بواسطة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين الذي سَمِعَ في الزيارة الأخيرة لإسرائيل كلاماً واضحاً: وقت الديبلوماسيّة إنتهى، وآن أوان التنفيذ، اما انسحاب “الحزب” عشرة كيلومترات عن الحدود اللبنانية-الاسرئيلية أو سنتوسّع في العمليات العسكرية!
لكن هوكشتاين الذي كان يعرف مسبقاً من الرئيس نبيه بري أن “الحزب” لن يقبل بالحل الاسرائيلي الذي سيؤدي إلى نزع مبررات الاحتفاظ بسلاحه ومسألة المقاومة، وكل سرديته المعروفة عن توازن الرعب منذ العام 2006 وحتى اليوم، عاد مُحبطاً إلى واشنطن، مُدركاً أن الأولوية أصبحت للحل العسكري الذي يطمح إليه رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو.
تدريجياً، بدأت اسرائيل بضربات “تحت الحزام”، مثل تفجير “البايجر” و”التوكي ووكي” ثم تصفية قادة كتيبة “الرضوان” وأخيراً ضرب معاقل “الحزب” في العمق اللبناني… وباتت اسرائيل قاب قوسين من حسم المعركة عبر هجوم بري يفرض على “الحزب” التراجع عن الحدود، وخصوصاً أنه “مجروح” و”مخروق” و”مضعضع”.
كل هذا الوقت كان “الحزب” يسعى إلى قطف ثمار تضحياته “الحدودية” في مواجهة محور الممانعة لاسرائيل، وإنفتح على المفاوضات الديبلوماسية مع هوكشتاين ليقدّم له الأميركيون أي عرض سخيّ مقابل تراجعه الحدودي، إلا أن ما عُرِضَ عليه هو التراجع فقط، وترتيبات حدودية بين لبنان واسرائيل، لم تكن كافية حتى يُعلن إنتصاراً “وهميّاً”. من هنا يُمكن فهم نصر الله وعناده في ربط جبهة الجنوب اللبناني بجبهة غزة، مراهناً على تورّط اسرائيلي في هجمات بريّة، يظنّ أنه سيكون منتصراً فيها، مكبّداً الجيش الاسرائيلي خسائر كبيرة، تخوّله رفع شارة النصر!
من جهتها، تبدو إيران راعية “الحزب” غير معنيّة بحربه، فهي لا تريده أن يخسر حتماً، إلا أنها لا تريد أن تتورّط في الحرب أيضاً معتبرة أن لديها فرصة في تفعيل الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، لذلك اكتفت بالدعم السابق الذي قدّمته لـ”الحزب” وتركت له حريّة المحافظة على وجوده بقوّته الذاتية، وهي تراعي مصالحها أولاً.
في هذا الوضع، وجدت اسرائيل أن الوقت مناسب للإنقضاض على “الحزب”، ويرى الأستاذ في العلوم السياسية في الجامعة الأميركيّة في بيروت هلال خشّان “أننا أصبحنا أمام معركة كسر عظم لا مجال للصفقات فيها، فاسرائيل تطالب الحزب بالخروج من الحدود، وهو يعتبر هذا الطلب إنهاء لدور المقاومة، بحيث لا يعود قادراً على التذرّع بأنه يريد تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر، ولا يقدر على التذرّع بتوازن الردع وحماية لبنان، كل هذه الشعارات ستسقط، والمطروح الآن هو إنهاء الدور العسكري للحزب، أما هو فلن يقبل حتماً لذلك إحتكم إلى القوة”.
لا أحد ينتظر من إيران أن تتدخّل في الحرب، وفق خشّان، فهي منذ خسارتها الحرب أمام العراق عام 1988، قررت عدم التورّط في أي حرب، لذلك أنشأت أذرعها العسكرية التي تحارب بالنيابة عنها، و”الحزب” احداها، ومن يتابع مواقف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في اليومين الفائتين لا بد من أن يتأكّد أن إيران لا تريد أن تسمع بأي حرب، حتى أنه اعترف بأن “الحزب” لا يستطيع مواجهة اسرائيل لأنها دولة تتلقى الدعم من قوى الغرب، وبالتالي هي اخترعت هذه الأذرع لتدافع عن نظامها لا لتُحارب إيران عنها، بل تستعمل الشيعة كحطب لحرقها.
ويلفت خشّان إلى أن “لا صفقات على رأس لبنان بعد اليوم، والأمور ستتغيّر تلقائياً، وما قاله أيضاً الرئيس بزشكيان عن أن ايران مستعدة لإحياء المفاوضات النووية داعياً إلى التهدئة مع اسرائيل، هذا كلّه يعكس أجواء ليست لمصلحة الحزب، وقد تكون إيران أنجزت صفقة بحيث تُقدّم رأس الحزب في الجنوب لاسرائيل مقابل تنازلات أميركية لإيران في الإتفاق النووي. والخلاصة أن إيران تقوم بصفقات لمصلحتها، أما الحزب فهو جندي في ولاية الفقيه، وبالتالي الجندي لا يقوم بالصفقات بل يتلقّى الأوامر”.
ولا شك في أن “الحزب” و”حماس” وغيرهما من التنظيمات الدينية، تعتبر أن الاستشهاد في عقيدتها الدينيّة بل هو واجب ديني، ويؤكّد خشّان “هم لا يعتبرون في منطقهم أن هذا الأمر خسارة بل تطبيق لإرادة الله، وهذه المبررات العاطفيّة الدينية التي تفضي إلى الموت نعتبرها نحن بالمنطق المجرّد عمليّة انتحار، وإلا كيف نفسّر ما فعلته حماس يوم 7 تشرين الأول 2023، وافتخارها بأنه إنجاز، لكن ما تبعه كان مأساة وكوارث دفع ثمنها الشعب الفلسطيني، فهل كان يستحق كل هذا البؤس من أجل إنجاز عاشوه ليوم واحد؟”.
ويعتبر خشّان أن زمن الصفقات ولّى، مشيراً إلى أن “اسرائيل تغيّرت بعد 7 تشرين الأول 2023، حتى موضوع الرهائن مع حماس لم يعد من أولوياتها، إنما تريد أن تؤمّن حدودها الجنوبية والشمالية، إلا أنها لن تقضي على الحزب بل تريد إبعاده عن حدودها فقط، وربما الغاءه كلاعب ضد اسرائيل، علماً أنه لا يهمهّا إن أصبح الحزب عامل شغب داخل لبنان، وأنا أرى الخطر على لبنان عندما ستنتهي الحرب، إذ ستجد القوى السياسية اللبنانية نفسها في مواجهة مع الحزب المنكسر والطامح إلى التعويض”.
بحث “الحزب” كثيراً عن مكاسب يصرفها في الداخل اللبناني سواء بما يخص الحدود أو انتخابات رئاسة الجمهورية، إلا أنه لم يجد آذاناً صاغية من الأميركيين، وكان يروّج أن الدول الكبيرة تفاوض “القويّ”، معتبراً نفسه الأقوى في لبنان، بدليل أن واشنطن سلّمت في النهاية أفغانستان لحركة “طالبان”، لكن خشّان يوضح أن هناك اختلافاً كبيراً بين “طالبان” و”الحزب”، فالأولى تمثّل نفسها، أما الثاني فيتصرّف بالنيابة عن إيران، والدول لا تتعاطى معه إنما مع مرجعيته الايرانية.
ماذا عن اليوم التالي للحرب؟ يجيب خشّان: “قد يكون لا يزال باكراً الكلام عن اليوم التالي، إلا أنني قد أكون صادماً إذا قلت إنني أتوقّع مشكلات أمنية في الداخل اللبناني ستفرض تدخّل الغرب لطرح صيغة جديدة للبنان، والتاريخ يؤكّد ذلك: في عام 1861 بعد المجازر الدرزية تدخّلت أوروبا وأنزلت قواتها في بيروت وفرضت نظام المتصرفيّة، وبعد الحرب العالمية الأولى عام 1920 قدّمت فرنسا للبطريرك الماروني الياس الحويك لبنان الكبير، وعام 1943 ضغطت بريطانيا على فرنسا لينال لبنان استقلاله ونشأ لبنان الدولة الحديثة نتيجة سايكس بيكو، واليوم إذا تطوّرت الأمور في الداخل على نحو يزعزع الأمن، فسيتدخّل المجتمع الدولي ليرتّب الأوضاع في لبنان نهائياً”.
ويبدو أن هذه التحليلات تتقاطع فعلاً مع توجّهات صانعي القرار في الولايات المتحدة اليوم مثل أنتوني بلينكن وجيك سوليفان وجيريمي كوربين وديفيد لامي الذين “غسلوا أيديهم” من لبنان حالياً، وتركوا اسرائيل تقضي على “الحزب” بعيداً عن الصفقات، علَّ لبنان يستعيد السيادة الكاملة، وربما باتت الادارة الأميركية مقتنعة اليوم بتغيير الاعتقاد الديبلوماسي السائد بأن من الضروري التحدث إلى التنظيمات العسكرية القوية بدلاً من صياغة استراتيجيات لهزيمتهم.
إنخرط “الحزب” في الصراع الدائر اقليمياً إلى حد يتجاوز دوره، صحيح أنه لا يزال يحاول أن يحافظ على دور معيّن من خلال ربط جبهة الجنوب اللبناني بجبهة غزة، إلا أن اسرائيل ترفض ذلك، وترى أنها قادرة على حسم الموقف عسكرياً فيضطر إلى قبول اتفاق منفصل لوقف إطلاق النار، وسحب وجوده العسكري إلى الشمال من نهر الليطاني، والسماح للنازحين الاسرائيليين بالعودة بأمان إلى الشمال.
ومن الخسائر الكبيرة التي أطاحتها الحرب الأخيرة نتيجة تمادي اسرائيل و”الحزب” في المواجهات، كان قرار الأمم المتحدة رقم 1701 الذي لم يعد قابلاً للاستمرار لأنه لا يتضمن تدابير عقابية، وستنتج المفاوضات الديبلوماسية التي ستعقب الحرب تصميم حلّ سياسي آخر طويل الأمد بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار من أجل احتواء “الحزب”، بعيداً عن التسويات الهزيلة، بحيث سيتضمن هذا الحل السياسي قطع طرق إمداد “الحزب” بالأسلحة من طهران عبر العراق وسوريا فضلاً عن مساعدة الدولة اللبنانية على استعادة سيادتها عندما يتعلق الأمر بقرارات الحرب والسلام.