آراء مصورة ومكتوبة أتخمت مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث أغلبها عن فكرة واحدة، أن كراهية شرائح واسعة وملحوظة لأمين ميليشيا “حزب الله” الراحل السيد حسن نصر الله، سببها هويته الشيعية، ومن هذه الرسالة العريضة، تولدت رسائل أصغر ترتكز عليها: بأنه الشيعي الذي دافع عن السنة في غزة، أو أنه الشيعي الذي نصر فلسطين السنية وتصدى لأميركا وإسرائيل.
الحقيقة أن كل ما سبق محض هراء، فالشخصيات ذات الحضور – السلبي أو الإيجابي – لا تحظى بإجماع، سواء كانت سنية أو شيعية أو حتى من عباد البقر، لكن الموقف الأساس من أي شخصية تشكله أفعالها ومواقفها لا هويتها.
إن حالة حسن نصر الله واضحة جداً ولا تحتاج إلى اجتهاد، فحين انسحب الجيش الإسرائيلي عام 2000 كانت شعبيته جارفة في العالمين العربي والإسلامي، وفي حرب تموز 2006 أذكر جيداً في بعض دول الخليج أن بعض أئمة الجوامع دعا له في صلوات الجمعة، لماذا تغير كل ذلك؟ الأسباب موضوعية جداً:
1- اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه من رجالات ثورة الأرز، وقد أدانت المحكمة الدولية بناء على تحقيق دولي محايد عناصر من ميليشيا “حزب الله” بهذه الاغتيالات. (ومن ضمن شهداء ثورة الأرز العميد وسام الحسن، الذي كشف غير شبكة تجسس إسرائيلية على الحزب، ومع ذلك تمت تصفيته لأسباب سياسية، وكشفت الحرب الراهنة حجم الاختراق التقني والاستخباري الذي ينخر جسم الحزب).
2- احتلال بيروت وترويع الجبل في أحداث 7 أيار 2008 واعتباره يوماً مجيداً. (وكانت الذريعة الرئيسة هي قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بتفكيك شبكة اتصالات غير شرعية أقامها الحزب، لنكتشف اليوم أن اتصالات الحزب مخترقة إسرائيلياً بالكامل).
3- جرائم الحرب المرتكبة في سوريا خدمة لنظام لفظه شعبه.
4- الانقلاب على الشرعية اليمنية وعلى استقرار اليمن، والتآمر على حاضر اليمنيين ومستقبلهم، واستخدام اليمن منصة لضرب ومحاربة المملكة العربية السعودية وهي قبلة المسلمين كلهم ومرجعية السنة السياسية، واعتبر الأمين الراحل أن محاربة السعودية تتقدم على محاربة إسرائيل!
5- الانتماء إلى محور أغرق دول الخليج والأردن بالكبتاغون.
6- استهداف الشرعية الأردنية وأمن الكويت والإمارات.
7- الانغماس في الصراعات العراقية الداخلية.
8- تشكيل خلية سامي شهاب التي انتهكت السيادة المصرية واستهدفت أمنها.
9- الانقلاب على إرادة اللبنانيين التي تجلت عبر صناديق الاقتراع 2005 – 2009 – 2022، وتعطيل الدولة وابتلاعها وتمكين الأشرار والاستقواء على مختلف القوى والمكونات اللبنانية ونخرهم ومحاولة تطويعهم، ومن صور ذلك تشكيل ما يسمى بـ “سرايا المقاومة” من أرباب السوابق التي أوغلت في إذلال الناس والتنكيل بهم، وهذا غيض من فيض.
10- إدخال لبنان قسراً في عزلة عربية دولية.
المسألة باختصار هي الصراع السياسي والمبدئي وليس الهوية الطائفية والدينية، رئيس مجلس النواب نبيه بري حليف شيعي لـ “حزب الله”، ومع ذلك كان موقفه بعدم المشاركة في قتل السوريين محل تقدير داخل لبنان وخارجه.
مقتل نصر الله على يد إسرائيل لن يغيّر صورته السلبية لدى خصومه، بل على العكس، عزّز الموقف السلبي منه، فقد أقحم نصر الله لبنان في حرب لا تحتملها ظروفه وقدراته، ورغماً عن إرادة أغلب اللبنانيين، الذين يعانون من أزمات مالية واقتصادية وأمنية ومعيشية عصفت بالدولة كلها، ويتحمل الحزب المسؤولية الأكبر عن تلك الأزمات، ولو اتخذت حكومة شرعية مكتملة المواصفات والشروط قرار إدخال لبنان في حرب وسط هذه الظروف لاتهمت بالخيانة العظمى، خصوصاً وأنها حرب لا تخص اللبنانيين، فمنذ سيطرت حركة “حماس” على قطاع غزة، دارت بينها وبين إسرائيل نحو ست حروب – قبل “طوفان الأقصى” – لم يتضرر منها لبنان قط.
أدخل “حزب الله” لبنان في حرب غزة وفق حسابات خاطئة، أهمها سوء تقدير قدراته الذاتية، وسوء تقدير قدرات العدو، وسوء فهم الظرف الإقليمي والدولي، وفوق ذلك كان الإسناد فاشلاً بكل المعايير، فلم يخدم غزة وأضرّ بلبنان. لقد دخل الحزب الحرب في 8 أكتوبر وفق تصريحات علنية للأمين العام الراحل، فوضعت حكومة إسرائيل لبنان في بنك الأهداف في اجتماع حكومي في 11 أكتوبر.
الأسوأ من كل ما سبق، أن الأمين العام نفسه قال في آخر خطاباته المتلفزة، أنه كان هناك عرض دولي موضوعه إعلان الالتزام بالقرار الدولي 1701 ووقف إطلاق النار مقابل إخراج لبنان من الحرب، لكنه رفض وأصر على ربط لبنان بغزة، أي أنه كان ممكناً حقاً تجنيب لبنان ويلات الحرب والدمار والتهجير، وهي الويلات التي أضرّت مباشرة بجمهور الحزب قبل غيره، لم يفكر الحزب أبداً في سلامة المدنيين ولا في مصير النازحين.
لقد كانت عملية “البيجر”، التي كشفت الفارق التقني المرعب، بين إيران وميليشياتها وبين العدو الاسرائيلي، إعلاناً لنهاية الحرب – قبل أن تبدأ – بهزيمة محور الممانعة، وكل ما بعد ذلك مكابرة أو انتحار، وتصريحات الرئيس الإيراني نفسه عن رفض بلاده للانزلاق في حرب شاملة – في مفارقة طريفة – تؤكد هذا التصور، ولقد ذكرتني عملية “البيجر” بمقولة للمفكر والسياسي اللبناني شارل مالك تعود إلى عام 1949: “يجب أن لا نغتر بمواردنا الطبيعية، النفط خصوصاً، وموقعنا الاستراتيجي، لأنهما من العوامل التي يمكن التغلب عليها، فالرهان فقط على الإنسان ولن يكون للعرب وزن إلا إذا أصبح الإنسان العربي مؤهلاً لأن تستشيره الحكومات الغربية في الصناعة ومختلف العلوم، وأن يصبح نتاج المفكر العربي والعالم العربي موضوع تدريس في جامعات الغرب”، أي أن شارل مالك ينبهنا إلى أن العلم هو جوهر الصراع والحروب وليس الخطب الرنانة.
لم يقتحم نصر الله حرب غزة حباً بالسنة، فقد استهدفهم في سوريا قبلها وفي غير مكان ودمرهم سياسياً في لبنان، لكنه عمل في خدمة المشروع التوسعي الإيراني على حساب العرب، وعلى أنصاره أن يتذكروا أن إيران هي من استخدمت “التشييع” كسلاح سياسي لها عبر مراكز “ثقافية” انتشرت في غير دولة.
لم يعادِ أحد حسن نصر الله لأنه شيعي، لأن لا أحد يعادي الشيعة لأنهم شيعة، وأصحاب الموقف السلبي من نصر الله لديهم الموقف نفسه ضد يحيى السنوار وأسامة بن لادن والبغدادي مع أنهم سنة، وخطاب النخبة العربية والسنية ضد تنظيمات “القاعدة” و”داعش” و”الإخوان” و”حماس” لا يقل شدة وقسوة عن خطابها ضد “حزب الله” وإيران، مع لفت النظر إلى تقدير عربي وخليجي ملموس لبعض الشخصيات الإيرانية مثل الرئيس الأسبق د. محمد خاتمي وسلفه هاشمي رفسنجاني، فالمسألة مواقف وأفعال، لا هويات ومذاهب.
إن الدول العربية التي هرعت إلى تقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية والخيرية إلى لبنان بعد الحرب، هي دول تضررت من “حزب الله”، ومع ذلك أكدت مجدداً وقفتها النبيلة مع الشعب اللبناني وفق منطق يعلو على المعايير الطائفية والسياسية، لذلك فإسقاط البعد الطائفي على الأحداث الراهنة، استمرار لخلل الحسابات ولخطاب ديني مسيّس ومضلل إذا قدمنا حسن الظن، أما إذا حضر سوء الظن فنحن أمام عقد تاريخية وطائفية هي من أهم أسباب نكباتنا في دنيا العرب والمسلمين. لقد أصبح نصر الله بين يدي الله، وإذا كان التشفي مرفوضاً عند صدوره من أعدائه وكارهيه، فيجب أن يكون الافتراء والعدوان مرفوضين من أتباعه ومحبيه، وعند الله تجتمع الخصوم.