انطلاقاً من حاجز البربارة رمز الهيمنة والإخضاع، مروراً بالصليب المشطوب راية الفيدرالية القواتية، وصولاً إلى “حالات حتماً” شعار الاستقلال الذاتي وليس انتهاءً باعتقال الدكتور سمير جعجع في 21 نيسان 1994 وسقوط لبنان الحر وفق مفهوم “القوات اللبنانية”. في المقابل، وانطلاقاً من ضاحية بيروت المربع الأمني اللبناني لولاية الفقيه، مروراً بأيار القمصان السود والإمساك بالسلطة، وصولاً إلى سوريا والعراق واليمن والبحرين واحتلال العواصم العربية وليس انتهاءً باغتيال السيد حسن نصر الله في 27 أيلول 2024 وسقوط لبنان الكرامة وفق مفهوم “حزب الله”. في العام 1990 أقفلت المعادلة العسكرية وفتحت نافذة الحل السياسي فلم يتعنت حزب “القوات” وعاد إلى الدولة إيماناً منه بلبنان، فهل يعيد الحزب تجربة “القوات” ويعود إلى الدولة اللبنانية؟
دويلة “القوات”
يمكن القول إن حزب “القوات اللبنانية” وبعد اغتيال زعيمه بشير الجميل عام 1982، تعرض لخسائر عسكرية كبيرة وشهد انتفاضات داخلية عدة، فانفض جزء كبير من المسيحيين من حوله وذهب إلى الجنرال ميشال عون بصفته ممثلاً للجيش والشرعية اللذين يرتاح إليهما المسيحيون تاريخياً. شعبية بشير كانت مستقلة عن شعبية “القوات”، لذا استغل عون هذا الواقع ليحارب “القوات” واضعاً إياه بين خيارين إما الرضوخ له أو الذهاب إلى الطائف، على وقع خياري الموفد الأميركي ريتشارد مورفي بين مخايل الضاهر أو الفوضى ليتبين لاحقاً أن الخيارين كانا يتأرجحان بين ميشال عون أو الفوضى، إذ قال مورفي فيما بعد إن الخراب آتٍ في حال عدم انتخاب الضاهر رئيساً بالمطلق.
بلغ “القوات” قوة سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية وحتى دينية فاقت كل الأحزاب اللبنانية التي عرفها لبنان منذ تأسيسه، فقد امتدت المساحة الجغرافية التي سيطر عليها عسكرياً من البترون شمالاً وحتى الحدود مع فلسطين المحتلة جنوباً. بلغ عديدها نحو 20 ألف مقاتل، امتلك عشرات الآلاف من فوهات المدافع والراجمات وصواريخ الفروغ والسكود وعشرات المروحيات والثكنات العسكرية بالاضافة إلى جهاز هندسة و”مركز غاما للمعلومات”.
إن أهم ما كان لدى “القوات” هو مطار حالات ومرفأ جونيه ومرفأ الحوض الخامس في بيروت ونقل مشترك. بنى مشاريع سكنية في طورزيا والضبية وحصرايل وطريق حبوب ونظم مئات الهيئات الشعبية، وأدار عشرات المؤسسات الاجتماعية والتعاضدية، وأسس وسائل إعلامية عدة منها قناة LBC وإذاعات “لبنان الحر” و”صوت لبنان” و102 FM ومجلة “المسيرة”.
يوم انسحب من الأشرفية إلى كسروان امتد مسار الآليات العسكرية من الكرنتينا إلى طبرجا واستمر أياماً عدة، في صورة تعكس المرحلة السلطوية والامكانات المادية التي بلغها حزب “القوات” فكاد أن يعلن عن دولته الفيدرالية الخاصة إلى أن سقطت المعادلات العسكرية وأطفئ الأفق السياسي ودخلت البلاد في نفق مظلم تمثل بحكومة قائد الجيش الجنرال ميشال عون وما خلفته من تداعيات سياسية واجتماعية وأمنية انتقلت الجمهورية على أثرها من النظام الرئاسي إلى البرلماني التعددي.
الطريق إلى الدولة
على الرغم من امتلاك حزب “القوات” مختلف مقومات الدولة وعناصرها المادية التي تتيح إمكان إعلان دولة “القوات”، إلا أنه حين أشرقت شمس الطائف ومهدت لولادة فجر لبناني جديد وانطلقت مسيرة بناء دولة لبنانية تعددية، سرعان ما التحق بقطار التحول السياسي الجذري. اختار “القوات” الذهاب إلى الطائف متخلياً عن مشروعه الفيدرالي، معتبراً أن مشروع عون كان انتحارياً بكل المقاييس وهو ما أُثبت لاحقاً، لذلك ارتأى ضرورة المحاولة في العودة إلى الدولة اللبنانية المركزية من خلال تجربة اتفاق الطائف خصوصاً وأنه حظيَ بغطاء بكركي والفاتيكان والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
في هذا السياق، يقول مراقب سياسي محايد لـ “لبنان الكبير” رفض الكشف عن اسمه: “إن القوات يحمل مشروعاً لبنانياً ولو كان هناك اختلاف سياسي تحت سقف الكيان، ثم إن القوات لم يعتنق يوماً عقيدة شمولية بل آمن بلبنان الحر لمختلف مكوناته لذلك استطاع التحرك ضمن هامش واسع من السياسة اللبنانية، سلم سلاحه لأن قراره داخلي عائد إلى القيادة وحسب”.
ويتابع المراقب: “حزب الله يمتلك عقيدة شمولية غير مرنة في الجوهر، إنما في التكتيك والعلاقات مع الخارج وحسب، لذلك عندما تطرح مسائل مفصلية على بيئة الحزب فهي تهدد جوهر وجوده، وبخلاف ما يقال إن الحزب فكر لا يمكن إلغاؤه، إلا أن هذا الفكر لا يمكنه التعايش مع طبيعة لبنان إلا في حال أصبح لبنان جزءاً من محور الممانعة. قرار الحزب في إيران، فإذا تضاربت مصلحتها مع أي ملف لن يستطيع التحرك خارج إرادتها”.
بين “القوات” والحزب
وعن المقارنة بين “القوات” والحزب قيادياً وتنظيمياً، يضيف المراقب: “مهما قيل عن السيد حسن وزعامته الكبيرة، غير أنه وبخلاف جعجع يبقى مرجعية تابعة لمرجعية أعلى منها، بينما جعجع لا مرجعية سياسية تعلوه لا داخل لبنان ولا خارجه، بل هناك تحالفات داخلية وصداقات عربية ودولية لا تملي على القوات، لأنها رهنت نفسها للنظام والدستور والقضية اللبنانية وحسب. سلاح حزب الله هو وديعة إيرانية لا يمكنه التصرف بها بحرية ونراه اليوم لا يستطيع استخدام الصواريخ الدقيقة، كما أن ضباط الحرس الثوري يشرفون مباشرة على القيادة العسكرية للحزب، بينما القوات كان مستقلاً تماماً في قراره لدرجة أنه لم يتقبل فكرة أن يتدخل المكتب السياسي الكتائبي في قراره. ثم إن القوات قام في ظل سقوط الدولة للدفاع عما تبقى من سيادة ومؤسسات، بينما الحزب قام في ظل وجود جيش وشرعية ومؤسسات”.
ويستطرد: “القوات آمن بالتعددية السياسية لا العسكرية في مناطقها، بينما الحزب لم يتقبل أي تعددية سياسية أو فكرية في مناطقه، وللتذكير كانت كل فروع الأحزاب المسيحية تعمل بحرية في المناطق الشرقية، حتى في أوج الحرب، بينما التخوين والملاحقة وصولاً إلى الاغتيال هو مصير كل قلم شيعي يخالف حزب الله. جعجع ارتضى أن يدخل السجن ويفتدي شعبه، في وقت كان يستطيع فيه التصدي لأي محاولة للدخول إلى مناطقه، لكنه رفض استخدام السلاح وأنقذ رفاقه ومجتمعه من نكبة دموية، في حين أن الحزب ورط شعبه في حروب مدمرة دفاعاً عن سلاح إيران ومشاريعها. القوات حارب الفساد لأنه كان متحرراً من أي أثقال، بينما حزب الله المكبل بالسلاح اضطر الى التحالف مع فاسدين لحماية سلاحه، والأهم أن القوات لم يتورط بأي عمل أمني بعد انخراطه في دولة الطائف بل دفع أثماناً باهظة في حين أن حزب الله متهم باغتيال رفيق الحريري وفق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان”.
ويختم المراقب بالقول: “إن رمز القوات التاريخي بشير الجميل دُفن في لبنان وفي قلب جبل لبنان النواة التاريخية لدولة لبنان الكبير، في حين أن رمز المقاومة السيد حسن نصر الله سيدفن في العراق”.
خيارات الحزب
لا شك في أن الحدث العسكري الأبرز في مسيرة “حزب الله” القتالية كان تحرير الجنوب عام 2000، يوم وقف اللبنانيون على اختلاف مناطقهم وطوائفهم إلى جانب المقاومة، واستكملت الوقفة التضامنية خلال حرب تموز 2006 على الرغم من اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل ذلك بعام ونيف وممارسة الحزب دوراً سلبياً إبان ثورة 14 آذار 2005. ولكن عندما قرر “حزب الله” وبإيعاز من الرئيس السوري بشار الأسد تحويل الانتصار العسكري إلى سياسي وقام باحتلال شوارع بيروت وتوّجها بـ “اليوم المجيد” في 7 أيار 2008، تهاوت أسطورة المقاومة شيئاً فشيئاً، إلى أن اتهم باغتيال الحريري الأب وأسقط حكومة الحريري الابن وقاتل الشعب السوري الثائر ودخل محتلاً غير دولة عربية. عطل الحياة السياسية والدستورية في لبنان ورسخ اختطاف الدولة وقرارها حتى فرض على معظم اللبنانيين جبهة إسناد غزة التي تفاقمت حدَّ اغتيال سيد المقاومة بالاضافة إلى عشرات القادة وآلاف المدنيين، ليعلن الحزب على الأثر استعداده لوقف إطلاق النار مفوضاً الرئيس نبيه بري التفاوض وكالةً عنه ما يطرح علامات استفهام حول إمكان الحزب التخلي عن ترسانته السياسية والعسكرية والعودة إلى لبنان الدولة والمؤسسات والشعب؟
ويقول الباحث السياسي وأستاذ العلاقات الدولية الدكتور علي شكر لـ “لبنان الكبير”: “حزب الله هو حزب سياسي يشارك في النظام اللبناني وممثل في الحكومة والبرلمان ومنخرط في الدولة ويشكل أحد مكوناتها كما بقية الأحزاب السياسية، لكنه يختلف عنها على اعتبار أنه نشأ في ظل احتلال إسرائيلي وعلى خلفية هذا الاحتلال، وطالما هناك أراضٍ محتلة فمن الصعب أن يتخلى عن سلاحه إلا في سياق تسوية كبرى”.
ويضيف شكر: “اليوم نحتاج في لبنان إلى تسوية جديدة انطلاقاً من اتفاق الطائف يتم من خلالها إعادة بلورة الحياة السياسية وإجراء تعديلات دستورية تسد الثغرات التي أعاقت تطور النظام السياسي كتحديد المهل المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة وإطلاق عجلة إلغاء الطائفية السياسية وتكوين مجلس الشيوخ، وانطلاقاً من هذه المعطيات يمكن البحث في مسألة التخلي عن السلاح”.
ويختم شكر بالقول: “أعتقد أن حزب الله لا يمانع في السير بتسوية وطنية عنوانها مصلحة لبنان الكبرى وتأمين مستقبل آمن ومزدهر للبنانيين”.
إن قرار التخلي عن مكتسبات الدويلة التي يصل إليها أي حزب يحتاج إلى أثمان باهظة يجب دفعها، لعل الثمن الأغلى الذي يدفع إلى اتخاذ القرار هو إنقاذ البيئة الحاضنة التي يمثلها. عليه، يمكن لـ “حزب الله” أن يتخلى عن عقيدته الشمولية ويعود إلى لبنان وينقل الصراع السياسي من ضفة ولاية الفقيه إلى الداخل اللبناني تحت سقف الدولة. قد يتمكن “حزب الله” من استنساخ تجربة تيار “المستقبل” لناحية تمثيل طائفته على صورة مدنية ويستمر في سياق المعادلة السياسية، ولكن يتوقف ذلك على الجيل الجديد في الحزب والأمين العام المرتقب ودوره المنتظر خصوصاً توليه مهام السيد حسن نصر الله الذي لن يتكرر على صعيد الحزب، فهل يعود إلى الدولة تاركاً وراءه ويلات الدويلة أم للجيل الحزبي الجديد كلام آخر؟