الحياد الإيجابي الناشط والخارجية المخطوفة

عبدالله ملاعب

غالباً ما تمحورت سياسة لبنان الخارجية حول مسؤولين معينين قادوا الديبلوماسية اللبنانية وصاغوا معالمها. بعضهم نجح في خلق ديبلوماسية مرموقة ذات ثقل في المحافل الدولية، ونجح نهجه في توسيع شبكة العلاقات اللبنانية – العربية واللبنانية – الخارجية كشارل مالك وغسان تويني والرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي هددت صدقيته الدولية قبضة النظام السوري على لبنان فكانت سياسته الخارجية سبباً لاغتياله من هذا النظام وحلفائه. والبعض الآخر قاد الديبلوماسية اللبنانية نحو القحط جرّاء نهجه الإلغائي الذي أغلق أبواب العالم أمام لبنان ووصل درجة تهديد الكيان اللبناني الذي تدخل الديبلوماسية في صلبه. نهج دفع محركات السياسة الخارجية بعيداً من “الغرب” وحتى عن “الشرق” بل حصرا بإتجاه الجمهورية الاسلامية الايرانية في زمن الكباش العربي – الايراني والعقوبات الاميركية على طهران.

عملية سطو قام بها هذا النهج على الخارجية اللبنانية عام 2014 حين دخل الصهر قصر بسترس ونسف معه تاريخاً عريقاً للخارجية اللبنانية التي كانت من مؤسسي جامعة الدول العربية عام 1945 وشاركت في صياغة الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948، لتتحول في حمأة الزمن الى خارجية يتيمة سقفها استقبال السفير السوري في بيروت، وأصبحت ذات لون واحد فاقع وبشع. والامثلة هنا تطول عن أكاديميين ديبلوماسيين لم يستطيعوا الدخول الى السلك الديبلوماسي لانهم لا ينتمون للتيار الذي رأينا تشكيلاته الديبلوماسية من سفراء أتوا على شاكلة هذا الزمن الرديء في خارجية تعمل “عالقطعة” إذ دائما ما حكم بأمرها افراد، لا العمل المؤسساتي او سياسة خارجية وطنية واضحة المعالم.

ولعل هذا الواقع كان السبب الأساسي لدفع الديبلوماسي اللبناني العربي ناصيف حتّي للاستقالة من مهامه كوزير للخارجية في حكومة حسان دياب في آب 2020، عبر بيان صريح حذَّر فيه من إنزلاق لبنان نحو “الدولة الفاشلة” معلنا أنّه شارك في حكومة دياب في بداية المطاف “من منطلق العمل عند رب عمل واحد اسمه لبنان ليَجد في بلده أرباب عمل ومصالح متناقضة”.

ولعل ما حصل في الاسابيع القليلة الماضية من محاولات لبنانية لتعويم النظام السوري عبر ملف استجرار الغاز والكهرباء الذي ما كان ليظهر لولا القرار الاميركي، يُنذر بمرحلة جديدة خطرة للسياسة الخارجية اللبنانية حيث يخوض لبنان معركة مفتوحة للتسويق للنظام السوري وتمتينه وتنشط الوفود الرسمية وغير الرسمية والطامحة للرئاسة على خط بيروت – دمشق للتطبيل للأسد. هذا عدا عن المغازلة الايرانية للبنان عبر تصريحات تهدف لتقول للاشقاء العرب وللغرب إنّ لبنان جزء من المحور الايراني الذي يرفض استمرار “الحصار الأميركي” على لبنان، منطقة النفوذ الإيرانية التي لن تسمح طهران للاميركيين بأن يستمروا بحصارها. وهذه جملة لطالما أتت على لسان الامين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله في سياق حديثه عن البواخر الايرانية المنقذة والتي ما زلنا ننتظرها.

وفي سياق هذا المشهد، يشرح ناصيف حتي لـ”لبنان الكبير” الدور الذي على لبنان أن يضطلع به عبر سياسته الخارجية. دور لا يشبه الواقع الحالي أبدا لأنّه قائم على البقاء خارج المحاور الإقليمية من دون تحييد لبنان بالمعنى القانوني للكلمة، كما هي حال سويسرا مثلا، لان الدور التاريخي للبنان يفرض عليه الالتزام بالثوابت العربية ولو ضعفت او اهتزت هذه الثوابت لا سيما تلك المتعلقة بالصراع العربي – الاسرائيلي. وفي هذا الاطار، يوضح حتّي ان خلاص لبنان يكمن بانشاء سياسة خارجية قائمة على ما يعرف بالحياد الايجابي الناشط الذي باستطاعته تخليص لبنان من كونه “صندوق بريد او حجر شطرنج في صراعات اقليمية، أيا كانت العناوين التي تحملها تلك الصراعات”. ويصبح ذلك ممكنا، بحسب حتّي، عبر بلورة مفاهيم قائمة على تعزيز مفهوم عدم التدخل في شؤون الآخر وعدم التحدث “فوق راس” سلطات دول أخرى باسم مواقف سياسية إيديولوجية او غيرها. لكن هذا كله يتطلب “توافر حد أدنى من التوافق الوطني” ويبقى صعب المنال بـ”وجود طرف لبناني بإتجاه معيّن وبشكل كليّ”.

في حديثه، أطلق حتّي صرخة مفادها انقاذ لبنان من لعبة الامم، وأعطى الاردن مثالاً على الدور الناشط الذي يستطيع لبنان ان يلعبه وسط المحاور. كما أشار الى الدور الذي يؤديه العراق اليوم إذ استضاف قوتين اقليميتين على أرضه لإجراء مباحثات.

إقرأ أيضاً: صفعتان لباسيل قبل المناقشة… و”حزب الله” على “الحياد”

مما لا شك فيه أن الحياد الايجابي الناشط يقي لبنان الشر الموجود في هذه المنطقة ويعيد بيروت لتلعب دورها المحوري كمدينة العرب والعالم حيث تلتقي الحضارات والآراء المتباينة ويجري النقاش بصراحة وبرقي. دورٌ أتقنته بيروت في آذار 2002 حين إقترح العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، عندما كان ولياً للعهد، مبادرة في إطار القضية الفلسطينية عُرفت ولا تزال بمبادرة بيروت للسلام.

لا نريد لبيروت ان تكون سويسرا الشرق أو عمّان او بغداد، مع احترامنا الشديد للعاصمتين العربيتين. وبالطبع لا نريدها ان تكون هانوي المنطقة او مقاطعة إيرانية. نريد بيروت أن تستعيد ذاتها ودورها الاقليمي والخارجي وتعزّز كيانها الخاص وموقعها العربي. لكن هذا كله غير ممكن في جمهورية مخطوفة من عماد يعاني من متلازمة ستوكهولم.

شارك المقال