ذكريات “جمول”… المقاومة المنسية

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

تحول يوم السادس عشر من أيلول الى مناسبة يتذكر فيها اللبنانيون ذلك البيان، الذي أيقظهم من صدمة احتلال الجيش الإسرائيلي للعاصمة بيروت عام 1982 والموقّع باسم جورج حاوي ومحسن إبراهيم يعلنان فيه من منزل الشهيد كمال جنبلاط في المصيطبة إنشاء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، التي صنعت تاريخاً حافلاً بالمآثر ضد الاحتلال، قبل ان تتدخل الوصايات والاحتلالات لتركيب “مقاومة” طائفية مذهبية لابقاء الأمور تحت سيطرتها.

في 16 أيلول من كل سنة يتذكر مقاومون من أبناء الأرض نضالات وعمليات بطولية للتأكيد أنه قبل “حزب الله” وقبل “مقاومته الإسلامية” التي أوصلته الى إحكام سيطرته على القرار اللبناني، كانت هناك مقاومة وطنية تشبه لبنان وأهله.

منذ أيام يكتب المقاوم فؤاد صالح ذكريات عن عمليات شارك فيها وقادها من منطقة صيدا الى جزين الى النبطية والشريط الحدودي والبقاع، ويتذكر رفاقاً شاركوه في صنع تاريخ لم يُكتب بعد ويبكيه، وذلك من مالي في أفريقيا حيث اضطر للهجرة بعيد حرب العام 2006 ولم يعد بإمكانه العودة بسبب التهديدات التي يتلقاها من “حزب الله” له ولعائلته، بحجة ان تعليقاته الفيسبوكية تمسّ بالأئمة بسبب تعاطفه مع أطفال مضايا، ولكشفه المستور من مخططات هذا الحزب الذي لم يقنعه يوما بانه مقاومة بل ميليشيا حزبية تتبع ايران وتعمل بإمرتها.

يعرّف فؤاد نفسه بأنه “من عائلة شيوعية قاتلت وناضلت بكل أبنائها في صف المقاومة، أنا من الجيل الوسط في العائلة، في بداية الثمانينيات كان عمري 14 او 15 سنة شاركت في دورة عسكرية في الباروك، في معسكر للتقدمي الاشتراكي، ثم حصل الاجتياح الإسرائيلي عام 82، اول عمل لي له علاقة في مجال المقاومة، كان هناك عرس في ضيعتي كفررمان، جاء أطفال لعندي وقالوا لي: هناك أولاد يلعبون بقنبلة، روح شوفها احسن ما تطلع فيهم، ذهبت وصرخت بالاولاد هذه يجب عدم اللعب بها، اخذتها وخبأتها في مكان بالقرب من بيتنا، وصرت احكي مع الشباب الذين هم اكبر مني وربما لهم علاقة بعمل المقاومة، في الليل رأيت اشخاصاً في المحيط وتأكدت انهم اخذوها وبعد فترة عرفت ان القنبلة رُميت في النبطية على دورية إسرائيلية استخدمها في ذلك الحين الشهيد فرج الله فوعاني”.

ويروي: “العملية الأولى ضد الإسرائيليين كانت بقرار شخصي، كنت في رحلة صيد في سهل الميدنة فوجدت راعيا يعالج لغما كبيرا يسمى م.د للمدرعات، كان يحاول تفكيكه بالعصا والحجارة قرب النهر، اخذته منه وقلت له قد ينفجر بك لاحقاً. اخذت اللغم وحفرت جورة في منتصف طريق الزفت التي كان يستخدمها الجيش الإسرائيلي وسمعت ان اللغم انفجر بالعدو وان شاحنة تضررت وأصيب من فيها”.

ويتابع: “كنت في احدى المرات عند غروب الشمس، اجلس انا وحبيبتي على حافة الطريق، فمرت دورية إسرائيلية، وسخر الجنود منا ببعض الحركات، لم اتحمل الوضع امام حبيبتي حملت حجارة ولحقت بهم وصرت أرميهم بالحجارة وهم يركضون امامي، وقلت في نفسي هل هؤلاء هم الذين يرعبوننا؟ هناك إمكانية لان نخيفهم ونضربهم ونرعبهم وننتقم منهم عن كل شيء فعلوه… هكذا صرت مقاوماً”.

ويضيف: “عام 1984 أيام الاحتلال أبعدت الى بيروت عن طريق جزين، لانني كنت مشاكسا وصاحب مشاكل مع جماعة لحد، اخرب حفلاتهم ومهرجاناتهم وامسياتهم الشعرية، كنت شوكة بعينهم في البلدة حتى ابي صار يهددني بعد الضغط عليه، وغالباً ما كنت انام ليلة او ليلتين في سجن اللحديين كل أسبوع الى ان ابعدوني الى بيروت، ومن هناك بدأت خطواتي الأولى، طبعا اخي عفيف كان من القبضايات ومن الذين يُعمل لهم حساب في العمل المقاوم وقام باعمال بطولية عديدة وانا كنت اسمع عنه من الشباب. عندما حصل الانسحاب الإسرائيلي الثاني، وصلت الى احد المسؤولين في جبهة المقاومة وسألته لماذا لا تثقون بي؟ كانوا يعتبرونني من الزعران، يعني تبع رقص وموسيقى واغان، اي من جيل ليس مسؤولاً عن شيء، لاحقاً قالوا لي بدنا نعمل جلسة في كفررمان، كنت انا وابن خالتي وصبية، بيتنا كان لجهة المواقع الإسرائيلية في الحارة الشرقية للبلدة، وكنت كل يوم اذهب لاطلّ على البيت لان اهلي تهجروا منه وتركوه، واخي عفيف لم يكن يأتي الى البلدة او يزور البيت، فأنشأت مستودع أسلحة ومن هناك بدأنا الانطلاق بعمليات، ثم اكتشفت امي خلال تفقدها للبيت وجود مستودعين للأسلحة واحد لعفيف وواحد لفؤاد وبدأت تهددنا رح تخربوا بيتي وسأخبر الحركة عنكم، عرف عفيف بالمستودع الآخر بالبيت وحصلت مشكلة بيني وبينه، تخوف من ان أكون اعمل مع جهة فلسطينية، قلت له انا حر وهيدا بيتي متل ما هو بيتك لك اسلحتك ولي اسلحتي بدك تمنعني حط سلاح بالبيت “شيل” اسلحتك، بعد نحو السنة عرف انني اعمل مع جبهة المقاومة الوطنية مثله”.

كثيرة هي العمليات التي شارك فيها فؤاد، بدءا من الاستطلاع الى المشاركة العملية الى قيادة عمليات ثم التخطيط لعمليات في مناطق مختلفة، سنوات مرت كبر وكبرت تجربته العملية وتعرف خلالها الى شبان وشابات بعضهم استشهد وآخرون أصيبوا وهناك من اعتقل وعُذّب في سجون الإسرائيليين وفي سجون تنظيمات الحركة وبعضهم اغتيل على يد “حزب الله”.

لم يكن التفرغ في جبهة المقاومة لينقذه من التشرد والجوع فالفقر كان يلاحق هؤلاء المقاومين، كانوا يشترون احذيتهم من البالة وكان البوط يُستعمل في عملية واحدة ثم يرمى بسبب المشي به لمسافات طويلة وهم محملون بالأسلحة والعبوات والمياه والطعام والقذائف ولم يكن بالإمكان ترك أي منها في أي منطقة لتخفيف الثقل عنهم، لاحتمال كشف إسرائيل لتحركاتهم السرية بين القرى والمناطق.

لا ينسى فؤاد بعض الليالي التي كان يقضيها بالاستطلاع وحده في مناطق بعيدة تحت المطر والثلج، والعتمة تخيم الى حد انه لا يرى اصبعه ومشاعر التحدي والشجاعة تتوازى مع مشاعر الخوف الا انها لا تلجمه عن ضرورة القيام بما يجب ان يحصل لطرد الاحتلال.

ويتذكر فؤاد كيف شعر بسعادة كبرى عندما استدعي الى صيدا للتواصل مع احد مسؤولي الجبهة، اذ تناول معه الهمبرغر في سناك الربيع وكان ذلك “شغلة عظيمة” وفق تعبيره، وهناك تم التوافق على العمل في منطقة النبطية. وبحسب ملاحظاته انه كلما كانت هناك عملية باسم مجموعة الشهيدة ناتاشا سعد او يشارك فيها احد من التنظيمات الفلسطينية كانت أمور تدبير الطعام وتأمين ذخيرة الأسلحة تتوافر اكثر مما يعني ان الدعم الأكبر كان يأتي في العمليات المشتركة.

ولا يخفي فؤاد مشاعره الإنسانية حين يفكر انه قتل او أصاب أحداً في عملية، وفي هذا الاطار يتذكر رفيقه الشهيد م. ق. الذي قتل في عملية احد العملاء اللحديين من آل حبيب الذي كان صديقاً له في المدرسة وعاشا حياة يومية في مراهقتهما سويا، لعبا الفوتبول ولاحقا الفتيات ودخّنا وشربا مع بعضهما. أما انا حين أيقنت اني قتلت احدا في أي عملية لا أغفى وأتساءل هل أصبحت قاتلاً الآن هذه المشاعر الإنسانية لا تغيب عن بالي.

لا ينسى انه عدا العمليات العسكرية كان المقاومون يتركون شعاراتهم على الجدران التي تهدد مخابرات العدو وعملاءهم، كنا أيضا نوزع منشورات نرميها في هذه القرى، ويروي انه في احدى المرات كنا نريد الكتابة على الجدران وكان هناك شاب وحبيبته يجلسان على البلكون واردنا ان نطردهما الى الداخل كنا قساة فعلاً، بادلنا الحب بالانانية اذ كنا نشعر بأن كل بيت وشارع وساحة لنا.

لا يرى فؤاد فائدة من وجود مقاومة لمواجهة العدو الإسرائيلي، ويقول: “هناك ضرورة لمقاومة حقيقية، مقاومة وطنية لمواجهة الاحتلال الإيراني المتمثل بـ “حزب الله” فهذا الحزب ليس حزباً لبنانياً هو احتلال بجسد لبنانيين محتلين، لبنان واقع تحت احتلال اسوأ من كل الاحتلالات وعليه يجب تأسيس مقاومة وطنية على أسس جديدة لمواجهة اخطار هذا الحزب على مستقبل لبنان والذي يريد تغيير معالمه ومسحه عن الخريطة”.

ويؤكد: “في السابق كنا مقتنعين بشعار ان الأرض لمن يحررها وكنا نحكي بين بعضنا أي منطقة ساتسلم بعد التحرير واقودها واصبح مسؤولاً عنها كنا نعتقد اننا مؤثرون ونرعب العدو وعملاءه، لاننا كنا نلمس ونرى الرعب بعيونهم والخوف. مثلا مقاوم يفجر تمثال سعد حداد بساحة مرجعيون، وآخر يستطيع إيصال سهى بشارة الى غرفة نوم أنطوان لحد لتطلق النار عليه او يغتال روبنسون في مزارع شبعا. الشيوعيون قاموا بعمليات كبيرة مثلاص عملية شبعا ــ جبل الشيخ التي استمرت 23 ساعة واستخدم فيها الإسرائيلي كل الأسلحة ولم يقدر على مجموعة من 9 مقاومين وقُتل خلالها نحو 15 إسرائيليا وتم اسر شخص كان لديه شحّ بالعتاد والأسلحة لكنه استطاع إيصال مقاوميه الى إذاعة لحد ليفجروها على الشريط الحدودي ثم الوصول الى تل نحاس والقيام بعمليات عند مثلث دير ميماس كفركلا مرجعيون وفي راميا. في المكان الذي وضعنا فيه أقدامنا لم يستطع “حزب الله” وضع رأسه بكل امكاناته، وهو لم يصل الى ما وصلنا إليه، كل عملياته عمليات إعلامية مرسومة مسبقا ومتفق عليها، هذا الحزب صناعة إسرائيلية للسيطرة الفعلية على لبنان ما بعد الانسحاب الإسرائيلي جاء بدعم إسرائيلي ــ أميركي وأكمل الاحتلال حتى صار الناس يحلفون برحمة الإسرائيليين عما يعانون منه اليوم”.

وينتقد فؤاد سياسة الحزب الشيوعي الحالية الملتحقة بـ “حزب الله” والتي أبقت على الانتهازيين في صفوفه وعلى المستفيدين وفصلت الذين يعيش بعضهم اليوم وهو في حاجة لربطة خبز، الحزب الشيوعي حاربني في لقمة عيشي، عقدوا اجتماعا لمنطقة النبطية بالقيادة لمقاطعة فؤاد صالح ومنع الشراء من عنده، مضيفا: “انا ما قدر شيوعي او “حزب الله” يطالني بشغلة تدينني على المستوى الشخصي او الحزبي هم غير قادرين على اتهامي بشيء، لا فساد ولا اختلاس ولا سرقة ولا نهب ولا اعتداء على الناس في وقت هم غاطسون بكل هذه الأمور حتى رؤوسهم”.

ويختم: “انا فؤاد صالح اقل واحد قدمت في جبهة المقاومة هناك اشخاص كثر قدموا اكثر مني بكثير لم يتحدثوا عن بطولاتهم وعطاءاتهم وتضحياتهم، هم اليوم منسيون ومظلومون واوضاعهم المادية سيئة، مؤسف ان لا يكون هناك لا دولة ولا حزب ولا هيئة تهتم بهم وتوصل لهم حقوقهم”.

انها سيرة من آلاف المقاومين المجهولي الهوية حتى يومنا هذا، فهل من يكشف عن كنز هؤلاء؟

شارك المقال