هربوا من جحيم لبنان… إلى جحيمٍ أخرى!

إسراء ديب
إسراء ديب

يُحاول الشاب عثمان (27 عامًا) الهرب من لبنان، وهو يُفكّر ويُخطّط يوميًا بكلّ طريقة تُتيح له الوصول إلى بلاد أخرى (سواء أكانت هذه الطريقة قانونية أم غير قانونية)، وبما أنّه يخشى إلقاء القبض عليه عبر الهرب “بقوارب الموت” التي عادت منذ فترة إلى الواجهة من جديد، ينتقل عثمان من مكتب سفريات إلى آخر سعيًا لمعرفة المزيد من المعلومات التي تُعلمه عن كيفية الخروج من هذه البلاد، التي تحوّلت إلى جحيم لا يتمّكن أحد من تحمّل نيرانها التي لم تترك شيئًا إلّا وأحرقته.

وبعد محاولاته المتكرّرة، وجد عثمان وهو من الميناء أحد مكاتب السفر في طرابلس الذي أكّد له تمكّنه من نقله جويًا إلى البلاد التالية: قطر، أوكرانيا، تركيا وبيلاروسيا بشكلٍ قانونيّ ليتمكّن هو في ما بعد من الانتقال إلى أوروبا ولا سيما إلى ألمانيا، بأيّ طريقة متاحة بدءًا من البلاد الأجنبية التي وصل إليها (ما عدا قطر التي يتوجه إليها من أجل العمل).

ويقول عثمان لـ”لبنان الكبير”: “بعد احتجاز السلطات البولندية عدداً كبيراً من اللبنانيين بينهم طرابلسيون على الحدود كما قيل، أثناء قيامهم بمحاولة الهرب بطريقة غير شرعية إلى الدول الأوروبية لتُعيدهم إلى بيلاروسيا التي رفضت أيضاً إدخالهم إلى أراضيها، خفت فعليًا من احتمال تكرار هذه الحادثة معي ومع أصدقائي الذين يُحاولون الخروج معي من لبنان، كما شعرت بالقلق من دفع ثمن التذكرة بما يُقارب الـ300 دولار أميركيّ كما أخبرني صاحب المكتب”. ويُضيف: “حالنا المعيشية تكاد لا تكفي ثمن الدخان الذي نشربه، وبالتالي إنّ الهرب من هذه البلاد يبقى وسامًا نعلّقه على صدورنا لأنّنا لن نتمكّن من الصمود أكثر من ذلك”.

حال عثمان تُشبه حال آلاف الشبان اللبنانيين الذين يُصارعون الموت يوميًا في لبنان، فلا فرصة عمل تُسعفهم، ولا منصّة تعليمية تُطوّرهم، وأزمات تنتهي لتبدأ معها أزمات قاتلة جديدة، كلّها أسباب تدفع الشبان إلى التفكير مليًا بكلّ ما يُساهم في خلاصهم.

صراع من أجل البقاء

“يُمكن القول إنّ الهجرة غير الشرعية عبر القوارب أو المراكب البحرية لم تعد وحدها الطريقة المتبعة للهرب من البلاد، فقد استغلّت الكثير من مكاتب السفر هذه الأزمة لتُقدّم عروضًا مختلفة إلى الشبان الذين يعيشون لحظات من الضعف عند سماع أيّ فرصة تنتشلهم ممّا هم فيه، فباتوا يُخرجونهم بطريقة قانونية من مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت وحين يصلون إلى الدول القريبة من أوروبا، يُواجه اللبنانيون مصيرهم بأيديهم ويعيشون في جحيم جديدة قد تحلو لهم بعد المأساة التي رأوها في لبنان، فيُصبحون ضحايا عالقة بين حدود الدّول سعيًا وراء فرصة للنجاة والعيش من جديد. وهذا ما يراه كثيرون غير ممكن، لأنّ الدول الأجنبية مؤخرًا باتت تُقفل أبوابها أمام المهاجرين ولم تعد ترغب بتقبّل المزيد منهم، إذ تسعى الدّول الغربية لدفع الملايين من الدولارات كيّ يبقى كلّ مواطن في بلده وكلّ نازح سوري أيضًا في لبنان”، وفق ما يرى مراقبون.

التهريب: طقوس وشروط

يعتبر متابع لملف الهجرة غير الشرعية في طرابلس (وهي هجرة باتت الشغل الشاغل لكلّ من يتمنّى الهرب من لبنان مؤخرًا)، أنّ هذه الهجرة لها طقوس معيّنة كيّ تنجح: أولًا يجب أن يكون الطقس مواتيًا وإلّا ستحصل كوارث لا تُحمد عقباها، وذلك كما حدث السنة الفائتة مع أحد المراكب التي توجهت إلى إيطاليا من طرابلس، إلا أنّها وبسبب سوء الأحوال الجوية توجهت إلى قبرص فاحتجزوهم وأعادوهم إلى لبنان. ثانيًا الهجرة غير الشرعية تتطلّب وجود أناس خارجين عن القانون أو مثلًا وجود اللاجئين السوريين الذين لا يتمكّنون من العودة إلى سوريا للحصول على جواز سفرهم وغيرها من الطقوس التي تطغى على هذه الطرق في السفر التي تتمّ عبر القوارب الصغيرة المعروفة، أمّا طريقة الهرب عبر المراكب الجديدة والمتطوّرة فهي أسلوب باهظ الثمن ويتمكّن كلّ من لديه سجل عدليّ نظيف عمومًا بالاعتماد عليه، وهي تبقى أيضًا طريقة غير شرعية لكنّها تُنفذ عبر رشاوى وتنجح في أغلب الأحيان”، بحسب ما يقول.

ويتابع لـ”لبنان الكبير”: “هناك قارب جديد، كبير ومجهّز سينطلق قريبًا من ميناء طرابلس إلى إيطاليا وهي رحلة لا تُعدّ سهلة أبدًا، وستتضمّن هذه الرحلة الكثير من الشبان الذين يدفعون أموالًا طائلة للهرب، وقد تتأخر هذه الرحلة أيضًا خوفًا من حالة الطقس لأنّها رحلة صعبة جدًا وبعيدة وغير آمنة على الإطلاق بسبب الأمواج العاتية والعواصف”.

ويقول: “منذ أيّام انطلق مركب يُدعى كاليبسو إلى إيطاليا، وهو مركب كبير ومجهز بتقنيات وآلات جديدة ومتطوّرة بعد تأمينه لنحو 5 آلاف ليتر من المازوت، وضمّت هذه الرحلة حوالى 70 شخصًا منهم عناصر أمنية، توجهوا إلى إيطاليا وأمام مرأى ومسمع الناس الساعة 12:45 ظهرًا حاملين حقائبهم علنًا ودفع كلّ منهم 5000 دولار، منهم من دفع المبلغ كاش، وآخرون دفعوا نصف المبلغ تقريبًا وسيدفع أهاليهم النصف الآخر عند وصولهم وهي فرصة لا تُقدّم إلّا لمن يعرفه صاحب المركب جيّدًا”.

وعن كيفية حصول تسهيلات كهذه في سفرهم، يوضح: “لقد هرب معهم عناصر أمنية أيضًا، لكنّهم جميعًا أناس عاديون أيّ أنّهم معروفون بأسمائهم جميعًا ولم يرتكب أيّ منهم جرائم ضخمة كالإرهاب أو القتل العمد وغيرها من التهم التي تحدّ من تحرّكاتهم، وهم وصلوا بعد رحلة دامت حوالى 10 أيّام إلى إيطاليا بسلام”.

وإذ يُؤكّد أنّ هذه الرحلة سبق وحصلت في التسعينيات بهذا المركب، يُشدّد على أنّ ظاهرة هجرة القوارب الصغيرة قد انخفضت تدريجيًا بعد منع قبرص استقبال المهاجرين لأنّها كانت الوجهة الأولى لهم عمومًا، كما يُشير إلى أنّ الميناء تبقى النقطة الرئيسية للهرب شمالًا “بسبب ارتفاع عدد المراكب وطول الساحل البحري هنا، أمّا المناطق الشمالية الأخرى كالقلمون وغيرها من المناطق العكارية التي انطلقت منها أيضًا بعض الرحلات، فكانت عبارة عن نقاط متنقلة تُخفّف من التركيز على الميناء لغض النظر عن هذه الظاهرة وعدم تسليط الضوء عليها كثيرًا كيّ لا تُعتبر أنّها المركز الرئيسي لهذه العمليات”.

شارك المقال