كورونا بين الحرب والأمل… ومأساة تغييب الحقائق

حسناء بو حرفوش

بينما لا يزال العالم يكافح لفهم فيروس كورونا والقضاء عليه، يعود وثائقي بالذاكرة إلى الموجة الأولى للجائحة وما طبعها من فوضى وإخفاء للحقائق. ويحاول عالم الأفلام الوثائقية الحفاظ على بعض الشواهد عن حقبة يبدو أن البشرية لم تعرف لها مثيلاً. وفي هذا السياق، سلّط موقع صحيفة “الغارديان” البريطانية (The Guardian) الإلكتروني، الضوء على الحرب التي يخوضها العالم ضد جائحة لا تعتبر تغطيتها “صديقة للإعلام”، في ظل ما تنطوي عليه من موت ومعاناة خلف الأبواب المغلقة وخسائر مرعبة في الأرواح.

ووفقاً للمقال، “لا شك في أن المسافة الكبيرة بين البشر والحقيقة تشكل واحدة من أعظم مآسي جائحة كورونا، وهذا ما يركز عليه وثائقي صانع الأفلام الأميركي ماثيو هاينمان، الذي يحمل عنوان “الموجة الأولى” (The First Wave). ويعيدنا الوثائقي الذي نال جائزة منذ أن أصدرته “ناشيونال جيوغرافيك”، إلى المراحل المبكرة والمرعبة للفيروس الذي غيّر وجه العالم. ويشير الوثائقي إلى الفكرة المغرية لإجبار رافضي الاعتراف بوجود كورونا والمخادعين ومناهضي التطعيم وتجّار المعلومات المضللة ومنظري المؤامرة وسواهم على الحصول على اللقاح.

إلى ذلك، يضاف انتشار المعلومات المضلّلة في الأوساط الرسمية وفي الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي (…) وفي هذا الصدد، يقول هاينمان، الحائز على عدة جوائز “إيمي” في مقابلة مع “الغارديان” إن “إحدى أعظم مآسي كورونا تتجلى بتحصين العامة ضد حقيقة الأمور. لعله كان من الأسهل على الصحافيين وصانعي الأفلام الدخول إلى المستشفيات وإظهار ما يحدث بالفعل للجماهير، والإضاءة على طريقة موت الناس والرعب المرافق للأحداث، أعتقد أن ذلك كان ليغيّر في الرواية (…) الحقيقة والعلم أصبحا مسيسين في تلك الفترة ولم نمتلك القدرة على متابعة ما يحدث. وهذا ما دفعني لصناعة هذا الوثائقي.

ونجح هاينمان في التصوير الميداني على الرغم من التحديات العملية هائلة، إذ غالباً ما كان الطاقم يختصر بمشغّل الكاميرا وحده، أو قد يرافقه منتج ميداني في بعض الأحيان، ليشارك ببصمة صغيرة مع توخي عدم التسبب بأي إزعاج قدر الإمكان. وطوال أسبوعين من التصوير مع التحصين بالقناع، لم يصب أحد بفيروس كورونا. ويضيف هاينمان الذي وثّق الصراعات في المناطق التي يسيطر عليها داعش والذي عمل على قصص عصابات المخدرات المكسيكية، عن هذا المسعى المرعب، داخل مراكز صحية بالولايات المتحدة: “في تلك المرحلة، وتحديداً في شهر آذار، لم نفقه سوى القليل القليل عن المرض وكيفية انتقاله من شخص لآخر. من الواضح أن العلم المحيط به كان غامضاً للغاية ولذلك بذلنا قصارانا بالمعلومات المحدودة التي توافرت بمتناول يدينا. كنّا في حال من الحرب وبذلنا جهوداً للعثور على الإمدادات، على الرغم من استحالة ذلك إلى حد كبير في البداية”.

الطب العاجز

ويذكّر الوثائقي بعمق بالرواية المخيفة وغير المألوفة حول كورونا في تلك الأشهر الأولى، مع صعوبة التعرف إلى الأنماط وهو الأمر الذي ما زال مستمراً حتى الساعة. ويخبر أحد الأطباء طاقمه: “نحن نعلم أننا ننظر يومياً إلى الموت، والجزء المخيف في الحكاية هو أن الموت يبادلنا النظر. الأمر كعاصفة لم يختبرها أحد من قبل. لا يوجد أي خيوط ولا توجد أي اتجاهات واضحة”. في تلك الفترة، تساءل الأشخاص الذين تدربوا طوال حياتهم لمحاولة فهم جسم الإنسان وإصلاحه، هل يرمون بكل ما تعلموه من النافذة؟ لم يمتلكوا الأدوات لمساعدة الناس. تخيلوا الأطباء الذين تلقوا طوال حياتهم تدريباً على شيء ما، يقفون بعجز أمام هذا الفيروس الغريب.

هذا هو الواقع خصوصاً في الأشهر الأربعة الأولى. لقد تسبب كورونا بدمار كبير وما زلنا نعيش الآثار طويلة المدى في ما يتعلق بدور الرعاية الصحية. وهذا ما يدفع للاعتقاد أن الجسم الطبي وكل القوى العاملة، ستشهد المزيد من الإرهاق والتسرب خلال الشهرين المقبلين. ولم يكن الأمر بهذه السهولة لصانعي الوثائقي الذين شهدوا محطات مؤلمة مثل استسلام أحد المرضى للموت بعد جهود حثيثة لإنقاذه، أو إجبار حامل في حال حرجة بسبب الفيروس، على إجراء عملية قيصرية طارئة قبل وضعها على جهاز التنفس الصناعي. بحسب هاينمان، لم تكن صناعة هذا الوثائقي سهلة. لقد كانت التجربة كصعود أفعوانية من العواطف يومياً. إنها تجربة تعزل الجميع، وتلمس كل من تضرر بشكل مباشر وغير مباشر. والأسوأ أن الناس كانوا يعيشون ويموتون ويتخذون قرارات تتعلق بالحياة والموت عن بعد من خلال أجهزة الهواتف ومن خلف الشاشات.

أمل وشجاعة

لكن على الرغم من كل ذلك الرعب، يسود شعور بالمثابرة المذهلة والشجاعة والثبات والحب والإنسانية وهي مشاعر يختبرها المرء بشكل يومي. يتذكر مخرج الوثائقي: “لم أخلد إلى فراشي وقد غرقت في حال من الكآبة. كنت أشعر صدقا بالإلهام وبالاندفاع للاستمرار في صناعة هذا الوثائقي يوما بعد يوم على مدى عدة شهور”. كما أن الوثائقي لا يكتفي بالإضاءة على جائحة كورونا بل على ما أسماه “الجائحة العنصرية” التي عصفت بالولايات المتحدة في فترة متزامنة مع الكارثة الصحية التي أودت بحياة أكثر من 5 ملايين شخص حتى الساعة.

ويختم هاينمان: “لا شك في أن كورونا غيرت حياة الجميع إلى الأبد. لقد غيرت نسيج المجتمع والطريقة التي نتواصل بها جميعا كأفراد. لذلك، آمل أن يخلق هذا الوثائقي مساحة للتفكير في كل ما مررنا به من أجل تقويم وضعنا على أمل أن نتعلم كيفية المضي قدما في المستقبل. يدور وثائقي “الموجة الأولى” حول أشياء كثيرة… يتكلم على الحياة والموت والولادة وقوة التواصل البشري. وعندما أعود إلى الوراء في هذه التجربة وأعيد النظر بهذا الانتاج، يغمرني شعور حقيقي بالاطمئنان إلى كيفية تكاتف البشر في مواجهة الأزمة. وهذا بحد ذاته، مصدر إلهام كبير”.

شارك المقال