“الغربة كربة”.. والبقاء في لبنان موت بطيء

جنى غلاييني

“ناس بتجي وناس بتروح”، ولكن في لبنان من يذهب لا يعود!

قيل الكثير عن أسباب الهجرة والغربة عن الوطن، أمّا غربة شباب لبنان فسببها واحد، وهو البحث عن وطن آخر يحترمهم ويقدّر طموحاتهم ويحقّق أحلامهم، بعدما فقدوا أبسط مقومات العيش في وطنهم، وتخلّت دولتهم عنهم، فكان الثّمن دفن آمالهم وأهدافهم، ومفارقة أحبائهم، وحزم أمتعتهم برباط الذكريات، مكسوري الخاطر، حابسين دموعهم في حين أن قلبهم ينزف.

غربة ومسافات تفرّق شمل المغترب عن أحبّته، فمنهم من هاجر وترك خلفه زوجة وأولاداً للبحث عن وظيفة مناسبة، ومنهم من ترك أماً تبكي شوقاً كل يوم، فيما البعض سنحت له فرصة الدراسة في الخارج مجاناً، وغيرها العديد من الحكايات والروايات التي جعلت أبطالها في خانة المغتربين عن وطنهم لبنان، الذي لو أمّن لهم ما يبحثون عنه لما أقدموا على هذه الخطوة التي قد تكلّفهم خسارة سنوات حياتهم في الغربة واللحظات الدافئة بالقرب من أحبائهم.

“أحن الى بلدٍ قد تخلّى عنّي”، بهذه الكلمات يعبّر جاد حديد، البالغ من العمر 29 سنة والمغترب منذ أكثر من سبع سنوات في كندا، عن حنينه الى وطنه لبنان، ويقول: “أشتاق الى رائحة بيتي والى أهلي الذين يبكون شوقاً في كل مرّة أتواصل معهم عبر الفيديو، والى كل أصدقائي مستودع الصبا والذكريات الجميلة، هؤلاء الأصدقاء الذين تفرّقوا ولم أعد أعرف عنهم إلا القليل، فمنهم من تزوّج وأصبح لديه أولاد، والبعض تغرّب الى وطن آخرٍ مثلي، وآخرون لا يزالون في لبنان يتخبّطون في المشكلات المعيشية ويشقون لتأمين أبسط مقوّمات العيش”.

تفاصيل ولحظات تغيب عن أنظار جاد، ويتمنّى في كلّ مرّة لو تواجد وشهدها، لكن لبنان دفعه الى اتخاذ قرار مصيري، إمّا البقاء والكفاح، وإما الذهاب بلا عودة، ويوضح: “قبل خمس سنوات رأيت أنّ لبنان لم يعد صالحاً للعيش فيه، والدليل ما يمر به الآن، مما يعني أنني لو لم أسافر حينها لكنت الآن من دون عمل وغير قادرٍ على تحمّل عبء الأزمة المعيشية، ولكنت ندمت ألف مرّة على عدم استغلالي فرصة السفر لإكمال دراستي، لكن الحمد لله فأنا الآن أعمل بشهادتي في كندا وأرسل المال الى أهلي شهرياً، وإذا سمحت الظروف فسأزور لبنان الشهر المقبل للاطمئنان الى عائلتي، لكنتي لا أفكّر مطلقاً في العودة النهائية الى لبنان”.

يرحل من لم يعد قادراً على التحمل، مجتازاً امتحان الفراق بغصّة وحرقة في القلب، ويبقى من لا يقوى على الرحيل، لكن محمد عبدالله البالغ من العمر 34 عاماً، كان من الأشخاص الذين أداروا ظهرهم لزوجته وأولاده الصغار ورحل محني الرأس بسبب بلدٍ خابت فيه آماله. وبدلاً من الاحساس بالذنب عن عدم قدرته على تغطية تكاليف الحياة في لبنان، اختار الهجرة والغربة عن عائلته لتأمين متطلّباتهم وجعلهم يفتخرون به كزوجٍ وأب. وبكلمات نابعة من القلب يقول محمد: “أنا مغترب منذ نحو سنتين ونصف السنة، أي بعد ثورة 17 تشرين الأول، ومنذ ذلك الحين لم أرَ عائلتي إلّا عبر الفيديو، وفي كل اتّصال أتمالك نفسي كي لا أذرف دموعي، لأنّني لا أعايش التفاصيل واللحظات التي يكبر فيها أطفالي، هذه اللحظات التي كنت أظن أنني أعيش من أجلها تفوتني وأنا على علم بأنّها لن تتكرّر، لكن العيش في لبنان أصعب من التنفّس حين تكون مخنوقاً، والبقاء فيه موت بطيء بالنسبة لي، وهذا ما أتى بي الى السويد، وأتمنّى أن تكون عائلتي الى جانبي في أقرب وقت ممكن، وحينها أكون قد ملكت الدنيا”.

بين مغترب وآخر قصّة حفرها في ذكرياته وقلبه الذي يفيض شوقاً الى أحبّته، مثل سارة مغربي، ابنة الـ25 عاماً، التي سافرت منذ ثلاث سنوات بغمضة عين الى بلاد الغربة، واعتبرت أنّ الذهاب الى أي بلدٍّ آخر غير لبنان سيكون خلاصاً بالنسبة اليها. وتقول بفرح: “الله بيحبني طلّعني من لبنان”، إنّها كلمات موجعة فعلاً لا ينطقها إلا شبان وشابّات لا يرون مستقبلاً مشرقاً في وطنهم. وتكمل: “على الرغم من سعادتي بأنني أصبحت بعيدة عن مشكلات لبنان إلا أنّ الحزن الشديد يملأ قلبي بسبب عدم تمكّني من حضور زفاف أختي الحبيبة، الى جانب شوقي العارم لأحضان أمي وأبي”.

وعن احتمال عودتها الى أحضان وطنها لبنان تقول: “في كلّ مرّة أشتاق الى أهلي وأصدقائي أفكّر بالعودة الى لبنان والعيش فيه، لكن حين اتحدث مع أهلي عبر الهاتف يقولون لي ما ترجعي أحسن لك خليكي بالغربة، لبنان غير صالح للعيش فيه، وهذا ما يجعلني أتراجع عن العودة وأبقى في الغربة الموحشة”.

تعد الغربة بطولة يقدّمها المغترب اللبناني على حساب عمره ومشاعره وراحة باله، فالمغتربون اللبنانيون في غربتهم أبطال، إذ يتعبون من خلال سعيهم الى حياة أفضل من الحياة في بلد قاسٍ على شبابه وبالكاد يكون العيش ممكناً فيه.

شارك المقال