يُفضّل أهالي مدينة طرابلس الهروب دائمًا من الأزمات المتعدّدة التي حوصروا بسببها في عالمٍ من الشائعات المبغضة والمبالغ فيها طالتهم منذ أعوام، إلى عالمٍ آخر ينتقلون إليْه بـ “كبسة زر” تُريح قلوبهم وتُذهب عنهم السوء للحظات ويرتفع معها مستوى هرمون “الأدرينالين”، وذلك بالعودة إلى “الزمن الجميل” بأغانيه والفنانين الذين رافقوهم طوال مرحلة كانت قد شهدتها “الفيحاء” وما تزال تعيش في طيّاتها، ألا وهي أغاني فترة التسعينيات وكذلك الثمانينيات المبهجة فنّيًا وشعبيًا.
لا ترتبط هذه الأغاني وتعلّق أهالي طرابلس فيها بفئة عمرية معيّنة، إذْ يُفاجئ البعض أنّ الكثير من صغار السنّ باتوا يتعلّقون بأغانٍ غير رائجة حاليًا في ظلّ انتشار أغان تُكتب بسرعة، تُلحن بسرعة، فتنُسى بسرعة أيضًا، ليختاروا بأنفسهم لائحة من الأغاني اللبنانية والمصرية ليسمعوها خلال عملهم في المنزل، أو خلال تجوّلهم في سياراتهم التي تُسمِع كلّ الأحياء هذا الذوق الذي يُعدّ “رفيعًا” في هذه الأيّام.
في الواقع، من يعيش في طرابلس يُدرك تمامًا أنّ أهالي هذه المدينة يعشقون الأغاني القديمة، ويتذوقون الفنّ بكلّ أحاسيسهم، ولا سيما تلك الرومانسية والحزينة التي تُشعرهم بالراحة النفسية الكبيرة عند سماعها، فمن تركته حبيبته لأيّ سببِ كان، يتحرّك سريعًا ليُشغّل سياراته ويضع أغاني هاني شاكر فتبدأ لائحة “لو بتحبّ حقيقي صحيح” أو صرخة شاكر في “سبتيني ليه” ويجول في الحيّ الذي تعيش فيه “المحروسة”، مما يدفع النّاس إلى الحديث عن “عاشق ولهان” أو “حبيب لوّعه الحبّ” أو “لسعته نار الخيانة” في هذا الحيّ.
عشق للفن
لا يُخفي الإعلامي عبد الله عسيلي، وهو طرابلسي ويعمل منذ الثمانينيات كمذيع في إذاعات متعدّدة شمالًا، الدّور الكبير الذي لعبته الإذاعات ولا سيما في فترة التسعينيات، إذْ كانت الأكثر رواجًا بين الناس حينها وكانت تُركّز على بث الأغاني المصرية، مما يُفسّر اعتياد الطرابلسيين عمومًا على هذا النوع من الأغاني الذي لم يُنسَ، بل كان وما زال مطلوبًا.
ويقول لـ “لبنان الكبير”: “موجة الإذاعات كانت قوية وبفضل رواجها ارتفعت نسبة المستمعين الذين كانوا يطلبون الفنان هاني شاكر بالمرتبة الأولى وكذلك الفنانة السورية ميّادة الحنّاوي التي لا يُستهان بنجاحها، كما أحبّ الطرابلسيون فنانين آخرين كعلي الحجار، عماد عبد الحليم… ولا ننسى تعلّقهم أيضًا بفناني الزمن الجميل حتّى هذه اللحظة كعبد الحليم حافظ وأم كلثوم”، مضيفًا: “نجاح هذه الإذاعات والقائمين عليها ازداد مع القدرة على توزيع هذه الأغاني وتنوّعها عبر فقرات مختلفة بدءًا من الصباح وصولًا إلى المساء، وأنّ هذا النّجاح دفعهم إلى تشجيع إحضار الفنانين من مصر إلى طرابلس بحفلات صاخبة، ولا يُمكن نسيان المشهد الذي رأيناه حينها فقد فرغت الشوارع من النّاس وباتوا يُلاحقون الفنانين إلى أماكن تواجدهم لإلقاء نظرة عليهم، وكان الفنان الأكثر شهرة حينها، هاني شاكر وكاظم الساهر أيضًا، وبالتالي إنّ هذه المحبّة ما زالت موجودة على الرّغم من الظروف وبالتأكيد ليست بالموجة عينها، لكن الأغاني والفنانين المرتبطين بالتسعينيات ما زالوا في قائمة التفضيلات كمصطفى قمر، حمادة هلال، هشام عباس، خالد عجاج… أو لبنانيًا كالفنانة نهاد فتوح وعلاء زلزلي مثلًا، وذلك لتميّز الطرابلسيين بطبيعة حزينة وعاطفية، وفي وقتٍ لم يكن الفنان قد اكتسب شهرة في بلاده، اشتهر في طرابلس وهذا ما رآه الفنانون بعيونهم”.
وإذْ يُؤكّد أنّ التسعينيات كانت فترة زمنية ذهبية في طرابلس، يُشدّد على أهمّية المقابلات الدقيقة التي كانت تُجرى مع الفنانين، “كان يطلب الفنان منّا الأسئلة قبل طرحها، وكنّا نفكّر كثيرًا ونتوتر أكثر لنضمن نجاح المقابلة مما يُشير إلى الهيبة التي يملكها الفنان ومسؤوليته التي يحملها على خلاف ما يحصل مع وسائل التواصل اليوم”.
ويختم: “منذ فترة أعدّدت برنامجًا إذاعيًا وبُثت أغانٍ قديمة، ونجح كثيرًا وعلى الرّغم من الأزمات المالية التي يُركّز الإعلام عليها وتسليط الضوء على فقر الشعب، لكنّ الحقيقة تُؤكّد أنّ الطرابلسيين يُحبّون الفنّ ويُقدّرون عالم الفنّ وهذا ما يجب التركيز عليه”.
تأثير الأغاني
ويستغرب مدير إذاعة “طرابلس أف أم” الإعلامي زياد زريق الذي يُقدّم برنامجًا صباحيًا من طرابلس منذ 6 أعوام، من محبّة الجيل الجديد للأغاني القديمة لا سيما المصرية منها.
ويقول لـ “لبنان الكبير”: “اختلفت الأذواق بالتأكيد، وهم مستعدّون لسماع الأغاني القديمة ليلًا ونهارًا لأنّها حقّقت نجاحًا ساحقًا لكن لا يستعدّون لحضور حفلاتها لأسباب مختلفة، وفي برنامجي الصباحيّ اعتمدت أسلوب وضع الأغاني القديمة اللبنانية لكسر الجدّية الممزوجة بالكوميديا الساخرة لساعتيْن، لكنّ الكثير من الناس تطلب منّي أغان مصرية قديمة أيضًا وذلك لتعلّقهم الكبير بفترة التسعينيات التي صنعت نجومًا حصدوا نجاحهم في مدينة ما زالت تلوّح بمحبتها لهم”.
ويُضيف: “امتلاكي لأرشيف كبير وقديم ساهم أكثر في نجاح البرنامج الذي يُتابعه هذا الشعب الذي يُمكننا فعليًا التأثير فيه حسب نوع الأغاني التي نبثها له، ليميل بالتأكيد إلى أجواء الحنين والراحة المفقودة في زمننا، وليتمكّن من الاستماع إلى أغانٍ عجز الزمن عن دفنها بسبب نجاح الكلمات، الألحان، التوزيع، والصوت”.
ويُشير زريق إلى أنّ الطرابلسيين لا ينسون حفلات عدّة أحياها كبار الفنانين من مصر، “لا سيما مع مجموعة (شباب للإنتاج) التي اتخذت من شارع عزمي مقرًا لها وتعهدت إحضار فنانين، كعمرو دياب، وهاني شاكر الذي أجرى حوارًا حينها مع إذاعة الشرق الطرابلسية وكانت من أهمّ الإذاعات حينها، وصعد شاكر 9 طبقات للوصول إليها بلا مصعد، وكان الآلاف من النّاس ينتظرونه أسفل المبنى للالتقاط الصور معه، عدا عن المهرجان أو الحفلات التي أجراها مثلًا في الملعب البلدي (المئتين)، ومنتجع الناعورة في التسعينيات…”.