fbpx

باب التبانة تفتقد قائدها: “أبو عربي” بصمة من ذهب

إسراء ديب
إسراء ديب
خليل عكاوي أبو عربي
تابعنا على الواتساب

تفتقد منطقة باب التبانة القيادة الشعبية التي تحمل هموم النّاس لتعكسها أمام الرأي العام بقوّة ووحدة لم تحظَ بها هذه البقعة الجغرافية منذ أعوام. فمن المعروف أنّ هذه المنطقة التي دفعت ثمن مواقفها من دماء أبنائها الذين صمدوا أمام الكثير من التحدّيات التي وضعت السيف على رقابهم، كانت “أنتجت” لسنوات قيادات شعبية معروفة باتحادها وحزمها لحماية مدينة طرابلس من كيْد الظالمين والعابثين بأمنها.

إنّ “باب الذهب” والتي كانت سوقاً تجارية جاذبة ومستقطبة لكلّ الأفراد والعمّال، تُعاني اليوم الفقر المدقع الذي يدقّ باب كلّ منزل في المنطقة، مع العلم أنّ أهالي التبّانة الأساسيين كانوا قد غادروا بمعظمهم منذ سنوات إلى مناطق أخرى. ومع دخول آخرين من عكار والضنية وغيرها من المحافظات إليها، لا تزال تحمل رمزية تاريخية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ مدينة طرابلس، لكنّها لم تعد تُشبه نفسها، ففي الواقع إنّ التبانة التي تتميّز فعلياً بتحركاتها المطلبية والثورية منذ الانتداب الفرنسيّ وصولاً إلى الحرب الأهلية التي أهلكتها، لم تعد تتحرّك كالسابق ولم نعد نسمع فيها بقيادات أو بزعامات تصدر من الشعب وتُدافع عن حقّه ولو بكلمة.

وفي ذكرى استشهاد خليل عكاوي المعروف بـ “أبو عربي” وهو ابن التبّانة، لا يُمكن إغفال هذه المناسبة التي نتحسّر فيها على هذا الرجل الذي لم تنسَه التبانة وكذلك أبناؤها الذين يذكرونه دائماً في أحاديثهم ومناقشاتهم التي يُشيرون فيها إلى “استحالة” ظهور قائد شعبيّ يُشبهه بصفاته، قوته وقدرته على الدفاع عن أبناء منطقته.

“أبو عربي”: اسم لا يُنسى ولا يتكرّر

إنّ هذا الرجل الذي سطع اسمه من خلال مواقفه المعادية للنظام السوري، اغتيل بكمين مسلّح في باب الحديد في 9 شباط 1986 عقب عودته من اجتماع في أبي سمراء مع فاعليات وقيادات من المخابرات السورية و”التوحيد”. وعلى الرّغم من توجيه عائلته بعض النصائح اليه ليخرج من طرابلس كما خرج غيره، لم يقبل وقال لزوجته فاطمة المهاجر (التي تتمتّع بشخصية قويّة وشجاعة تحمّلت معها ألم الفراق وتربية الأطفال)، حسب ما يقول نجله عربي لـ “لبنان الكبير”: “لسنا أفضل من أحد، فلستِ أفضل من الأرامل اللواتي خسرن أزواجهن، ولا أطفالنا أفضل من أطفال الشهداء الذين استشهدوا بكرامتهم، فإمّا أنْ نعيش بكرامة أو نموت…”. وبعد تمسكه بالبقاء في التبانة وطرابلس ليُدافع عنها ويمنع دخول الجيش السوري إليها، استشهد لتخسر هذه المدينة زعيماً قوياً كان يُحّبه الكبار الذين واكبوا مرحلته الذهبية وحتّى الصغار الذين يرونه “نجماً ساطعاً” لا يُمكن أن يتكرّر، وبالفعل لم يُترك جدار في حيّ من أحياء التبانة إلّا ووضعت عليه شعارات (مكتوبة) أو صور تعود لـ “أبو عربي”.

في التفاصيل، تعود جذور عكاوي إلى عكا الفسلطينية، ولد في باب التبانة عام 1955، لوالد خبّاز لديه فرن في التبانة يعيشون فوقه. كان مناصراً للقضية الفلسطينية، حركة “فتح” والرئيس ياسر عرفات مع إيمانه المطلق بقضايا الناس التي شغلته، وعمل على تأسيس حركة “المقاومة الشعبية” وعرف بمحبّته للقومية العربية التي دفعته إلى تسمية نجله باسم “عربي” قطعاً، كما اشتهر بميوله اليسارية مع أفراد من عائلته التي تأثرت بالنهج “الماوي” الذي تأثرت به التبانة بشكلٍ كبير في تلك المرحلة التي شهدت حراكاً ثقافياً واضحاً.

يُمكن القول انّ النهج “الماوي” كان قد اشتهر بالالتزام فيه أخوه الأكبر علي عكاوي الذي كان قد عرف بميوله الثورية التي لم تعرف طائفة أو مذهباً، وتمكّن من جمع أفراد من السنّة والعلويين من دون أن يعرفوا ميول بعضهم البعض، لكن بعد نشوء حركة “الشباب العلوي” بعد احتدام الصراع بين السوريين والفلسطينيين، انقسمت المنطقتان أيّ باب التبانة وجبل محسن إلى جبهتيْن، ومن هنا بدأت الصراعات التي عرفت انقساماً مذهبياً من جهة وسياسياً من جهة ثانية، ولا سيما بعد تأييد التبانة للفلسطينيين (منظمة التحرير)، وأهالي جبل محسن إلى جانب سوريا، وبعد مقتل أخيه مسموماً في السجن، تحمّل خليل عكاوي مسؤوليات القيادة في السبعينيات.

أمّا في الثمانينيات، ومع تأسيس حركة “التوحيد الإسلامي” بقيادة الشيخ سعيد شعبان، تأثر بها عكاوي لتأثره بالثورة الإسلامية في إيران، وانضمّ إليها لمواجهة النفوذ السوري في لبنان، لكنّه كان ضحية دفاعه عن كرامته في يوم غدرت فيه نار صديقة وعدوة.

عربي عكاوي: والدي كان منحازًا للحقّ 

لا ينسى نجل أبو عربي والده أبداً، على الرّغم من تحوّل هذه الذكريات إلى حلم يتمنّى أن يُشاهده من جديد، لكنّ الطفل الذي تعرّف إلى والده أكثر بعد استشهاده حين كان يبلغ تسعة أعوام، لم يجد بديلًا من والده مهما بلغت الأحداث المتوالية من قوّة.

وبعد مرور 36 عاماً على الاستشهاد، يقول: “لم أكن أراه كثيراً فقد كان مهتماً بشؤون النّاس والمنطقة، لكن أتذكره حين كنّا نلعب في فريق رياضيّ كان قد أسسه، الا أن علاقتي الحقيقية معه ومع سيرته المشرّفة بدأت بعد وفاته”..

يتذكّر عربي نصائح والدته لزوجها ومدى خوفها عليه في مرحلة اشتدّت فيها المعارك العنيفة، ويُفكّر أكثر بجنازة والده، اذ دافعت والدته التي تعرّضت للضغط كيّ يُدفن في التبانة لتظهر جنازته بشكلٍ ضيّق، لكنّها أبت أنْ تفعل ذلك وأصرّت على دفنه في باب الرمل، وقالت: “لو كنت لوحدي سأدفنه”، لكن الجنازة حقيقة كانت من أكبر وأهمّ الجنازات التي مرّت على المدينة في مشهدٍ مهيب تقشعر له الأبدان في وقتٍ صعب.

يُشدّد عربي على أنّه يُشبه والده في صفاتٍ معيّنة كرغبته في الدفاع عن المظلوم وإنصافه بعيداً من المصالح الشخصية، “لكن والدي يبقى الأفضل بشخصيته العادلة التي لا تزال حديث الكبير والصغير في طرابلس التي تفتقد القيادة الحكيمة”.

إشترك بالقائمة البريدية

شارك المقال