السينما في طرابلس … ذاكرة زمن لا يُنسى

إسراء ديب
إسراء ديب

عاش الطرابلسيون أجمل أيّام حياتهم مع رواج السينما في المدينة، ولا ينسى كبار السنّ فيها مدى روعة صالات السينما التي كانت موجودة في وقتٍ كانت تعيش المدينة عزاً وازدهاراً كبيرين. فقبل سنوات، كانت صالات السينما في طرابلس المنتشرة في ساحة التل وحتى في الأحياء الداخلية للمدينة، مزيّنة بالإضاءة وملصقات الأفلام والمسرحيات، فالطرابلسيون ميالون إلى الفن وأهله وعلى معرفة بأهمية السينما وقدرتها على التأثير من جهة والتسلية من جهة أخرى منذ زمن بعيد، وهو ما عكس فعلياً واقع المدينة وصورتها في ذلك الوقت. وليس خافيًا أنّ رؤية الكثير من صالات السينما القديمة في طرابلس وهي تتآكل أو تتدمّر أو تُغلق اليوم، تُشكّل حسرة في قلوب محبي هذه المدينة التي لا تستحقّ كلّ هذا الغبن المرافق لها منذ سنوات.

ذاكرة السينما ذاكرة المدينة

يتذكر أهالي المدينة الذين شهدوا هذه المرحلة، الملصقات التي كانت تحمل صور أهم الممثلين وأحب الفنانين على قلوبهم، فأم أحمد أو خديجة، كانت تنتظر بشوق وحماس أفلام الفنان فريد الأطرش، وكانت تربطها علاقة شغف لم تزُل مع الزمن، أمّا طارق فكانت أفلام الفنانة صباح هي المفضلة لديه وكان يحجز البطاقات” أوّلاً بأوّل” ليكون في الصفوف الأمامية لمشاهدة أفلامها.

يُمكن القول إنّ التكنولوجيا لم تترك مكانًا أو مجالًا إلّا وطرقت بابه ودخلته، ومع عدم القدرة على مواكبة التكنولوجيا الحديثة في طرابلس، بسبب عدم وجود الدعم، وإهمال هذه المرافق وارتفاع أثمان تجهيزاتها، وقعت هذه القاعات التي أصبحت في عداد ” الآثار” بمعظمها، ضحية لغزو التكنولوجيا التي لا ذنب لها إن وصلت إلى مدينة لم تهنأ يومًا بمرافقها الأساسية المهملة.

طرابلس تُريد إحياء الفن

يغرق “بطل طرابلس بالسينما” نبيل السباعي، وهو الخبير في شؤون السينما الطرابلسية في مكتبته التي تتضمّن الآلاف من الملصقات الفنية النادرة والأفلام المدمجة، فضلًا عن” الكاسيتات” النادرة. يعشق نبيل السينما، وهذا العشق جاء متوارثًا عن والده سعدي السباعي (1931) الذي أحبّ الفنّ وكان عاشقًا لأدقّ تفاصيله.

بدأ سعدي عمله وهو متعهد في ” البوفيه” أيّ كان يُقدّم حلويات ومأكولات في سينما ” الحمرا” في التل، وقد راقت له أجواء السينما وطلب منه ترويج دعائي للأفلام المعروضة، فكان يُخاطب الناس مع آخرين يحملون اللافتات أو “البوسترات” المعروضة ويجول فيها كيّ يتعرّف الناس على جديد الأفلام وكان بمثابة إعلان، بين أهالي القرى والأحياء وحتّى المدارس.

عام 1959، روّج سعدي لأوّل فيلم وهو ” شمشون ودليلة”، من بطولة فيكتور ماتيور… ويروي سباعي لـ”لبنان الكبير” أنّه حين وصل والده إلى مدرسة الراهبات (أيّ مدرسة الأميركان في القبة)، قال له راهب:” ما الذي يضمن لنا أنّ القصّة حقيقية؟ فكان سعدي قادرًا على إقناعه أنّ القصّة حقيقية، وحين عاد إلى قاعة السينما لم يجد مكانًا شاغرًا… إذ شهدت صالات السينما زحمة وإقبالًا كبيرين وبالآلاف حينها”.

استلم سباعي لاحقا المهمّة التي ورثها عن والده، ويقول:” كان رواد السينما يتنافسون لإيجاد مقاعد لهم. وفي مرة اضطر صاحب سينما الكولورادو بفيلم شمشون ودليلة إلى الجلوس على صندوق للمشروبات الغازية وإلى جانب دورة المياه(الحمامات) لكيّ يُشاهد الفيلم حينها.

لكل فنان حكاية

بعد سنوات، بدأ سعدي بتعهّد الأفلام من الشركات المتعهدة من بيروت مثل صاحب شركة إيطاليا فيلم جوزف فتشانتي وغيره، وكان يُؤمّن أهم الأفلام وأكثرها شهرة لأهالي المدينة.

ويذكر نبيل أنّ بهيج غمراوي ونجله طوني، كانا يملكان صالة” الأوبرا”و” الليدو” التي كان اسمها الحقيقي” الرويال” ولكن طلب من والده سعدي استلامها بسبب خبرته وعرض 5 أو 6 أفلام في عرض متواصل، كما استلم صالات ستاركو، بيكاديلي، إضافة إلى صالة الزهرا…”، فأصبح بمثابة ” مدير الأعمال السينمائية في طرابلس”.

كما يُؤكّد سباعي أنّ للفنان الراحل فريد الأطرش حكاية مميّزة، فقد دفع أبيه للعمل في قهوة تل العليا في التل لعرض أفلامه حينها”، مشيرا إلى أنه لا ينسى فيلم” حنفي الأبهة” الذي عرض عام 1990 وحصد حينها 35 ألف مشاهد”.

الواضح أنه كان للسينما وقع وتأثير على الناس التي كانت تُقلدّ الأبطال، كشخصيات كلّ من سوبرمان، بروسلي، رامبو، عبد الحليم وشادية في مشهد الدراجة في فيلم” معبودة الجماهير”.

ويروي سياعي أنّه حين عرض فيلم “ماسح الأحذية” في الأوبرا، لم يدخل في العرض الأوّل سوى شخص واحد، ما دفعهم إلى ابتكار حيلة أحدثت ضجة في فترة الثمانينيات، فحينها قالوا لكلّ من يُريد الدخول إلى القاعة لمشاهدة الفيلم إنّ القاعة ممتلئة، ما دفع الناس إلى الحضور لمشاهدته.

الرقابة والمشاهد الساخنة

أمّا عن المشاهد التي كانت تُعدّ مخلّة بالذوق العام حينها، وما إذا كانت مقبولة أم لا، يقول سباعي:” المشاهد كانت تمرّ على الأمن العام وكانت الرقابة مشدّدة عليها، فكانوا يحذفون المشاهد التي كانت تُعدّ ساخنة ولا يُعرض أيّ منها بشكلٍ كامل على المشاهدين”.

وعن الأفلام التي حضرها أبطالها شخصيًا، فقد حضر الفنان عادل إمام عن فيلم “شمس الزناتي”، الفنان نور الشريف عن فيلم “المصير” في الريفولي والـ “لاس ساليناس” بالعرض الأوّل، كما حضر نور الشريف أيضًا والفنانة ماجدة الرومي عن فيلم “عودة الابن الضال”، الفنان الكوميدي علاء ولي الدين عن فيلم “عبود على الحدود”، كما حضر كلّ من فاروق الفيشاوي ونادية الجندي عن فيلم “امرأة هزت عرش مصر”، مؤكّدًا أنّ كلّ الفنانين الذين زاروا طرابلس أحبوها وأحبوا أهلها، وهم يرون دائمًا أنّ أهل طرابلس كرماء للغاية.

عام 2015، وقبل تدمير مبنى “الريفولي” الاسم الذي أطلق على مكتبة سباعي حاليًا، عرض الفيلم الأخير فيه وهو فيلم “حلوة وكذابة” لداليدا خليل وزياد برجي، ولم يكن الإقبال عليه كبيراً.

ولا ينكر سباعي محاولته إبهار الناس عبر جلب المزيد من الأجهزة والتقنيات الحديثة سينمائيًا، ولكنّه بعد عام 2015، حاول استئجار قاعة “الكولورادو” في ساحة النور لينتقل من الريفولي، ويقول: ” لو استلمنا هذه القاعة كنّا أنقذناها بالفعل، ولكن أصحابها طلبوا مني مبلغًا كبيرًا ولم أتمكن من الحصول عليه، ولكنّ آمل أن يتغير الوضع الى الأفضل لأنّ طرابلس والفنّ يستحقّان المبادرة”.

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً