رمضان الذي نعرفه!

اكرم البني
اكرم البني

مفارقة مؤلمة، بين رمضان، شهر الورع والتقوى، وإعلاء قيم التسامح والرحمة، يحدوها التذكير بطقوس هذا الشهر المبارك وتقاليده من نداء المسحراتي وايقاع طبلته إلى مباهج لمة العائلة وقت الافطار، وبين رمضان اليوم في المشهد السوري، المكتظ بالخراب والضحايا والتشرد والفقر، جراء عنف منفلت أمعن فتكاً وتدميراً في حيوات الناس وممتلكاتهم، مكبداً، حتى الآن، أكثر من نصف السوريين خسائر وأضرارا لا تعوض.

أين رمضان الذي نعرفه؟ ينتابك السؤال المؤلم، مع ما تكرس خلال أكثر من عشر سنوات من شروخ وانقسامات وتباينات في طريقة عيش السوريين وحاجاتهم وهمومهم وفي أمانهم وأحلامهم وأمنياتهم، ومع تمترس طغمة سلطوية لا تهمها آلام الآخرين، ويتباهى رموزها بقتل البشر وخراب الوطن، بصفتهما “انتصاراً” يزيل من طريقهم من يعتبرونه حثالة لا مكان لها في “مجتمعهم النظيف”.

أين رمضان الذي نعرفه، مع انتشار حواجز مسلحة رعناء تزرع الخوف عند السوريين القابعين في مناطق سيطرة النظام، ويمكنها اعتراض أي مواطن وابتزازه وحتى تقرير مصيره كما يحلو لها من دون خوف من المساءلة والحساب، ومع التردي الكبير في شروط الحياة في ظل تفاقم مشكلات تأمين مستلزمات التدفئة، كالغاز والمازوت، والانقطاع المتواتر للماء والكهرباء، وتهتك البنية الخدمية والصحية والتعليمية؟! ويفاقم الصورة المأساوية تزايد خشية المواطنين مع حلول الشهر الكريم من تفشي غلاء فاحش لا ضابط له، من ازدياد جشع التجار، من ارتفاع أسعار السلع الأساسية وصعوبة حصولهم عليها، من تراجع شديد في قدرتهم الشرائية، ربطاً بالتدهور المتواتر وغير المسبوق لليرة السورية أمام الدولار وغيره من العملات الأجنبية، الأمر الذي لا يفقد المواطنين الفقراء القدرة على اقتناء الحد الأدنى من متطلبات الإفطار الرمضاني وحسب، وإنما طاول فئات متوسطة بدأت مدخراتها تنفد، وأيضاً صغار التجار، وقد باتت رؤوس أموالهم البسيطة تتآكل، جراء بيع سلعهم بسعر لا يمكّنهم، مع استمرار تراجع قيمة الليرة، من إعادة اقتنائها.

أين رمضان الذي نعرفه عند من حكم عليهم بالعيش في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، حيث ينهكهم الحصار ويتهددهم اجتياح سلطوي وإيراني مرة وتركي مرة ثانية، وحيث يستخدمون كحطب وقود لتسعير معارك التنافس بين جماعات إسلاموية متطرفة تسعى كل واحدة منها الى فرض ما تعتقده شرع الله على الأرض، متوسلة فتكاً وقهراً لم يقف عند إرهاب البشر وإرغامهم على إتباع نمطها في الحياة وإنزال أشنع العقوبات بحق من يخالف ذلك وحسب، وإنما وصل الى حد فرض الإتاوات ومناهج عدوانية تلقن للأطفال لا تمت بصلة الى منطق العلوم والمعارف، والأهم اعتقال الناشطين المدنيين والإعلاميين والتنكيل بهم؟

أين رمضان الذي نعرفه، وقلوب مئات ألوف السوريين يعتصرهم ألم ممض على ضحاياهم وقد غيبتهم الأنقاض، وعند آخرين يتعرضون لمختلف صنوف الإذلال والابتزاز في سعيهم الى معرفة مصير أحبتهم المعتقلين والمختفين قسرياً، بينما أياديهم على قلوبهم خوفاً من خبر مفجع تسربه أجهزة الآمن يضم هؤلاء المفقودين إلى لوائح القتلى في السجون والمعتقلات؟

أين رمضان الذي نعرفه، عند نازحين في البلاد يتلوون ألماً في بحث قاسٍ ومضنٍ عن ملاذ يقيهم وقد باتوا بلا مأوى أو في حالة عوز شديد بعد أن فقدوا كل ما يملكون أو يدخرون، ليكره بعضهم على التسول وغالباً على قبول أعمال وضيعة ومذلة لتأمين قوت يومهم؟ أو حين تلاحق بعضهم الآخر عقدة الخوف من الاعتقال والتعذيب بسبب انتمائهم إلى إحدى المناطق المتمردة، حتى صاروا يجدون الموت أرحم مما يكابدونه من خوف وقهر وجوع؟!

أين رمضان الذي نعرفه، عند لاجئين سوريين يجبرون على العيش في معازل ومخيمات لا تليق بالبشر، وحين تتفاقم معاناتهم من النبذ والإقصاء ومن هشاشة حياتهم بلا مؤسسات أو عمل، ويغدو مصيرهم رهينة المعونة المقدمة من منظمات الإغاثة الدولية العاجزة عن تلبية أدنى احتياجاتهم، من الغذاء والملبس والتعليم والرعاية الصحية، وخاصة للأطفال والفتيات، الأكثر عرضة للأمراض وللاستغلال الجسدي والضياع؟ وأيضاً عند اللاجئين حين تتنامى ظواهر حصارهم ومضايقتهم وتتصاعد دعوات استبعادهم قسرياً، في مناخ يشي بتواطؤ عام لإرغامهم على العودة إلى بلادهم من دون توفير أبسط الضمانات الأمنية والإنسانية، مدعوماً بتنامي ظواهر شعبوية وعنصرية يسقط أصحابها من أولوياتهم واجب الدعم والتعاطف مع ما يكابده بشر يشبهونهم ويستحقون مثلهم الحياة على سطح هذا الكوكب؟

أين رمضان الذي نعرفه، حين لا يزال يتصاعد العنف من هنا وهناك، والبلاد تستباح وتغدو ميداناً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، الأمر الذي لم يقف عند الحضور السياسي والعسكري الفاضح لداعمي السلطة، روسيا وإيران وميليشياتها، بل امتد ليشمل تدخلا أميركيا لا يزال يحاول الإبقاء على نفوذه في مناطق هامة من شرق البلاد، وسبقه التمدد العسكري التركي وما انتزعه من مواقع على طول الشريط الحدودي؟

والحال، يعيش السوريون رمضان هذا العام وهم يزدادون تحسراً على ما حل بحيواتهم، والأمر لا يتعلق فقط بفظاعة الفتك والتدمير والتردي المريع في الأمن وشروط الحياة، أو بالتشوهات والانقسامات التي تفعل فعلها في المجتمع، فتذكي العصبيات المذهبية والطائفية، وتشجع روح التنابذ والنزاع والانشطار إلى هويات ممزقة وإلى صراعات من طبيعة إقصائية تترك اثاراً خطيرة على وحدة البلاد والدولة والشعب، وإنما أساساً ببقاء جرحهم مفتوحاً من دون اهتمام أممي جدي بأحوالهم وما يكابدونه. ففي الوقت الذي تعترف فيه الأمم المتحدة بأن ما حصل في سوريا هو من أكبر الكوارث التي واجهتها خلال تاريخها، يبدو المجتمع الدولي عاجزاً حتى اللحظة عن وقف العنف وحقن الدماء، فكيف بفرض حل سياسي عادل ينصف السوريين ويلبي حقوقهم؟

” كفى، أما آن لهذه المأساة أن تنتهي؟” هو رجاء البشر في هذا الشهر الفضيل، هي صرخة اعتراض الموجوعين على استمرار العنف المفرط أياً تكن الدوافع والمسوغات، وعلى هذا الاستهتار البغيض بأرواحهم وممتلكاتهم ومستقبلهم، هي صرخة استغاثة تدعو العالم أجمع الى تخفيف أوجاعهم الإنسانية، ومساعدتهم على الخلاص من مسار عبثي ومسدود بات عنواناً لمزيد من التفكك والألم والضحايا والخراب!

شارك المقال