الأسعار ونفسية المواطن… في علاقة عكسية!

جنى غلاييني

يئن الشعب اللبناني تحت وطأة أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه، وتتزامن مع انسداد سياسي في الأفق بسبب التعثر في تشكيل حكومة مستقرة حتى اليوم، ما يعرقل الكثير من خدمات المواطنين ويدفع بالبلاد إلى شفير الانهيار التام. هذه الأزمة أدت إلى اضطرابات إجتماعية ونفسية لدى غالبية المواطنين، حتى باتت تحدث نفسها في الشارع. حالة من الجنون أعيت مَن يداويها، وهي متوقعة لفئة كبيرة من الناس التي نهشتها براثن الفقر في غضون فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز الثلاث سنوات.

تؤكد الاختصاصية في علم النفس بدر شهيب لـ”لبنان الكبير” أنّ “الارتفاع المستمر للأسعار وبصورة يومية من فواتير وضرائب ومحروقات ومواد استهلاكية وإيجار السكن وغيرها يؤدي إلى زعزعة الاستقرار النفسي لدى المواطن اللبناني الذي يتعرّض الى نوع من الإفلاس الشهري خاصّةً إذا كان من ذوي الدخل المحدود، إضافة الى لجوئه في أكثر الأحيان الى الاستدانة من معارفه لسد الفجوة بين الدخل والنفقات”.

وتشير الى أنّ “اللبناني الذي كان معتاداً على الانفاق كثيراً، جعلته الأزمة الاقتصادية التي أدّت الى انهيار الليرة اللبنانية ينهار نفسيّاً، بحيث انقلبت حياته فجأة فبعدما كان معتاداً على تلبية حاجاته الأساسية والكمالية وعلى الخروج والتنزه والسهر، يرى نفسه اليوم غير قادرٍ لا على تلبية ما يريده ولا حتى على الخروج من عتبة المنزل كلما أحسّ بالملل بسبب شعوره بالعجز المادّي الذي ينعكس سلباً على المستوى النفسي، ويؤدي إلى عدم التوافق النفسي والاجتماعي الذي يمكن أن يصل الى مرحلة الاضطرابات والى الاحساس بعدم السعادة وعدم الرضا والشعور بالعجز وعدم الكفاءة ما يتسبب باعتلال في صحته النفسية”.

وتوضح شهيب أن “التأثير السلبي للغلاء المعيشي ينعكس على الصحة النفسية للمواطن وعلى الصحة الجسدية أيضاً، إذ أن الحالة النفسية والعزلة التي يعانيها كثيرون ممن لا يستطيعون توفير لقمة العيش أو الاحتياجات الضرورية لأفراد أسرتهم تكون سبباً للإصابة بالكثير من الأمراض كارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب ولا سيما الذبحة القلبية بسبب التوتر الدائم، والانفعال والعصبية الزائدة”.

وتضيف: “إنّ حالة العجز المادي التي وصل إليها اللبناني من شأنها أن تحدث خللاً في عملية تكيفه النفسي – الاجتماعي مع من حوله الأمر الذي يضعه في دوامة الشعور الدائم بالفشل والإخفاق ويدفعه إلى العزلة وعدم الانتماء الى المجتمع، وبهذا يصبح معرّضاً للإصابة بالاكتئاب الذي قد يجرّه إلى ممارسة سلوكيات غير سوية يعتبرها وسيلة للخروج أو الهروب من معاناة الواقع ومواجهته”.

وتتحدث راما، وهي أم لـ 3 أولاد، عن معاناتها: “لأول مرة بعد وفاة زوجي أشعر وكأنني عاجزة أمام أولادي عن تلبية أقل احتياجاتهم الأساسية، وبسبب الأوضاع الصعبة وضرورة القيام بعمل مضاعف تركت منزلي وانتقلت مع أولادي للعيش في بيت والدي، فأنا أعمل طيلة النهار حتى أستطيع تأمين أقساط مدارسهم، وطعامهم، وشراء مستلزماتهم، ولا أراهم إلا في فترة المساء، أي قبل ساعة تقريباً من موعد نومهم، فهل هذا الوضع منطقي وصحي؟ لا حلول جذرية أمامنا، حتى إن كنا نعاني من أي مرض نفسي، لا قدرة لنا على الذهاب الى الطبيب لغلاء أجرة المعاينة”.

أما علاء، وهو موظف محاسبة، فيقول انّه كان معتاداً قبل الأزمة على الخروج للترفيه 4 أيام في الأسبوع وأحياناً كل يوم، “ولكن ما قبل الأزمة ليس كما بعدها!. فأنا كموظف محاسبة في شركة مرموقة كنت أتقاضى مبلغاً كبيراً يجعلني قادراً على السهر ودعوة أصدقائي، وفي المقابل، لم أكن أحرم نفسي أو عائلتي شيئاً، وكنت أصرف المال بصورة جنونية ومع ذلك يكفيني حتى نهاية الشهر. أمّا بعدما انهارت الليرة اللبنانية فقد انهرت شخصيّاً، وأصبح راتبي الذي أتقاضاه اليوم يتبخر في منتصف الشهر. لم أحسب يوماً أنني سأصل الى هذه المرحلة، وأنا أشعر فعلاً بالعجز حين تطلب والدتي شيئاً وليس بمقدوري أن ألبيه لها. وها أنا أعيش كل يوم بيومه بلا طموح ولا أمل، خائف من مستقبل مجهول تماماً!”.

شارك المقال