جنّبوا أطفالكم المصاعب… وحافظوا على كنف العائلة

ليال نصر
ليال نصر

التدخل حيث تدعو الحاجة، مهمةٌ منوطة بمؤسسات الرعاية الاجتماعية في لبنان ومنها “دار الايتام الاسلامية” في عكار. ومفهوم الحاجة يعني عندما يكون هناك داعٍ لرعاية بديلة أو لتعليم وتأهيل أو رعاية أسرية وإقامة مشاريع اجتماعية في القرى وتمكين أهاليها وفق قدرات معينة.

ولأن التدخل حيث تدعو الحاجة، يتعاطى المعنيون في المجمّع مع الحالات الأفقر والأحوج الى الرعاية، وكما هو معروف أن الأحوج هم من لديهم احتياجات مختلفة وهنا تتوسع الشريحة وتكثر الأسباب.

هناك حالات نمطية كانت معروفة قبل الأزمة الاجتماعية، وأخرى برزت أكثر وزادت أعدادها ما بعد الأزمة التي اجتاحت لبنان ومنها: حالات الطلاق والتخلي عن الأطفال، العنف الأسري، والتسرب الدراسي وتسييب الأطفال. هذه المشكلات أصبحت بحاجة الى التدخل دائماً وعلى مدار العام والى رعاية أكثر تخصصاً من الرعاية التقليدية التي كانت تقدم قبل 15 و20 سنة.

كيفية التعامل في “دار الأيتام”

يعمل المسؤولون دائماً على تشجيع الرعاية الأسرية، أي طالما الأسرة قادرة بمساعدة ما وبطريقة ما على أن يكون أطفالها في حضنها، فالمكان الأمثل للطفل هو أسرته وكل الخدمات التي تقدم في دار الأيتام الخاصة بالأطفال تراعي المصلحة الفضلى للطفل. وإذا كانت هذه المصلحة تتحقق في أسرته، فمن الطبيعي أن يكون هذا الطفل معها. لذلك إذا قرر زوجان الطلاق، يتم التدخل للوساطة وإعادة شمل هذه الأسرة لتذليل العقبات وتقريب وجهات النظر، ما لم يكن هناك ضرر يقع على أحد أفرادها، وهذا الضرر يصعب تجنبه إلا بإجراءات حازمة.

من فئات الأطفال التي زادت خدمات دار الأيتام في عكار لها في السنوات الأخيرة، فئة الأطفال المحوّلين من قاضي الأحداث، لأسباب ومشكلات معينة في الأسرة، التي تصبح غير مؤهلة للرعاية، وهنا يحال هؤلاء الأطفال إلى هذه المؤسسة، لتقديم الرعاية لهم.

ماذا يجب أن تدرك الأسر من الناحيتين الحقوقية والقانونية؟، تقول مديرة “مجمّع عكار للرعاية والتنمية” التابع لـ “دار الأيتام الإسلامية” كوثر عيتاني لموقع “لبنان الكبير”: “إن عدد الأطفال الموجودين لديهم كان 252 طفلاً وتراجع إلى 165 خلال الاجراءات في فترة جائحة كورونا ليصبح العدد في العامين 2021 – 2022، 186 طفلاً من بينهم 33 طفلة وطفلاً محوّلون من القضاء، والعدد سيعود إلى 252 في العام 2023”.

وتوجه عيتاني نداءً الى الأسر لا سيما بعد فترة من خدمة الأطفال المحوّلين من القضاء، وتنصح الأسرة عندما تقرر إنجاب الأطفال، بأن تطّلع على شرعة حقوق الطفل وتحترمها، “وهذا موجود في ثقافتنا وتكوين مجتمعنا الذي لا يقبل الخطأ لا سيما في ما يتعلق بموضوع الطفل”.

صحيح أن المجتمع بحاجة الى توعية أكثر، لكن هذا المجتمع يعي تماماً في عقله الجمعي ما هو جيد وما هو سيء للطفل، من هنا تكمل الرسالة وتقول: “جنّبوا أولادكم المصاعب التي يمكن أن يواجهوها بسبب إنخفاض الوعي عند الأهل والعنف الأسري وانخفاض الرقابة واستغلال الاطفال والى ما هنالك من أسباب يجب على الأسر تجاوزها إذا قررت تأمين الحماية الفعلية لأطفالها ضمن كنفها”.

يحوّل الأطفال من القضاء لأسباب قهرية أسرية بالمرتبة الأولى وبالتالي أول ما يعانون منه هو انسلاخهم عن أسرهم وبيئتهم أي الجيران والمدرسة، وهذا التغيير الكبير يؤثر بصورة كبيرة إن كان لحظة حدوث المشكلة أو لحظة صدور القرار لانتقالهم الى العيش في المؤسسات، وهذا أقل الأمرّين، لكن الطفل يعاني الفقدان والرغبة في التكيف مع وضعه الجديد ويسأل كثيراً لماذا انفصل عن أسرته، ويرى أنه لم يخطئ وأن الأهل أجدى بالعقوبة.

هناك خصائص لهذه الفئة من الأطفال في الخدمة المقدمة من المؤسسات رعائياً وتربوياً، والمؤسسة تحاول قدر المستطاع أن تساعد وتقدم حلولاً لهم، علماً أن التحدي الأبرز هو وجوب التفكير بهم في مرحلة الرعاية وما بعدها والى أين سينتقلون وكيف سيتكيفون مجدداً مع أسرهم، وكم ستكون لديهم القدرة على مجابهة المشكلات والتغيير الايجابي والبناء ضمن عائلاتهم.

هذه من الأسئلة المستقبلية التي تطرحها عادة الرعاية مع هؤلاء الأطفال وتحاول أن تعمل عليها من خلال التدريب والتربية اليومية لهم.

وتوضح إحدى خبيرات حماية الطفل لموقع “لبنان الكبير” أن “إتفاقية حقوق الطفل تعتبر الرعاية الوالدية من حقوق الطفل الذي يجب أن يتلقى الاهتمام من العائلة أي الأسرة البيولوجية بالدرجة الأولى أي الأم والأب معاً، وانطلاقاً من ذلك أصدرت الأمم المتحدة بياناً أو ملاحظة جديدة أشارت فيها إلى أن وضع الأطفال في مؤسسات الرّعاية ليس لصالحهم وله آثار سلبية جداً على المستويات كافة وليس على الصعيد النفسي فقط. وهناك دراسات مقارنة بين الأطفال الذين عاشوا في مؤسسات وآخرين ضمن كنف أسرة، أظهرت أن النمو العصبي في الدماغ يكون أبطأ ويؤثر على نموهم العاطفي والعقلي والمعرفي عند الأطفال في مؤسسات رعاية. وفي قانون حماية الطفل، حسب قاضي الأحداث فإن الملاذ الأخير بحسب المواد القانونية هو وضع الطفل في مؤسسة إجتماعية”.

وتشير الخبيرة الى أن “الممارسة في لبنان قائمة على إيداع الطفل في مؤسسة رعائية سواء بإقبال من الأهل أو بقرار قاضي الأحداث، وقلّما يتم اللجوء إلى البدائل الأخرى والعائلة الممتدة أو الأسرة البديلة، على الرغم من أن القانون نفسه يشدد على بقاء الطفل في بيئته الطبيعية”.

والجدير بالذكر أن المؤسسات لا يرتبط سبب وجودها بالرعاية الوالدية أو اليتم وحسب، لكنها مرتبطة أيضاً بالفقر من جهة والتعليم من جهة ثانية. وبغض النظر عن الأسباب وإذا كان الطفل يتيماً أم لا، يفضل أن يبقى في كنف رعاية والديه وعدم فصله عن أسرته.

ومؤخراً بدأت مبادرة بدعم من منظمة “اليونيسف” هدفها الحد من الرّعاية الداخلية وتشجيع الأشكال الأخرى من الرّعاية البديلة إضافة إلى الرّعاية النهارية من قبل هذه المؤسسات.

على الصعيد الصحي، معظم هؤلاء الأطفال تكون لديهم مشكلة صحية منها له حل ومنها لا حل له حسب نوع المشكلة إذا كانت عرضية ولم ينتبه اليها الأهل أو مزمنة.

يخضع الأطفال للتقويم الصحي في البداية، ثم يبدأون بالخطة العلاجية إذا احتاج الأمر بعد عرضهم على الطبيب المختص، وبعدها يخضعون لتقويم نفسي وتبدأ الخطط العلاجية مرحلية أو طويلة المدى، وتساهم في السماح لهم بتقبل وضعهم الجديد ليتعايشوا معه وتجاوز الصدمة والتفكير بإيجابية في مستقبلهم. وفي مرحلة لاحقة، يدمجوا في مدارس المنطقة وتتم المتابعة النفسية مع المدارس للتغلب على المشكلات اليومية، وتستمر طيلة فترة العمل معهم.

الظروف التي يأتي منها الأطفال تتطلب من المؤسسة العمل عليها خصوصاً اذا كانوا معنّفين، من أجل اجتياز مرحلة أن يعنفوا، ويتعودوا على الحوار وتخف نسبة العنف لديهم وهذا يأخذ وقتاً وجهداً. أما الأطفال الذين تركوا دراستهم فيحتاجون أيضاً الى وقت ليتجاوزوا هذه المرحلة. وكذلك الذين تعرضوا للوصمة، تكون لديهم مشكلة التنمر وهذا من المواضيع التي تعمل عليها المؤسسة.

مشكلة الكلفة الرعائية

إن كلفة الرعاية والتربية للأطفال من هذه الفئة، أعلى بكثير، لأنهم بحاجة الى اختصاصيين وأنشطة أكثر. كما أن مصادر التعلم عندهم، أي اكتساب الخبرات، تكون على عاتق المجمّع، وهم يصرون على عدم الرجوع الى أسرهم، ويشعرون أن هذا الخيار هو مصلحتهم الفضلى لأنهم يريدون فكرة الانفصال عن أسرتهم الأصلية بسبب ما تعرضوا له من أذى.

تجدر الإشارة إلى أن كل عمر له خصائصه من ٣ حتى ١٨ سنة، والملاحظ أنه عند الذكور تظهر حدّة المشكلات عندما يصبحون في عمر المراهقة، أكثر من الفتيات، اللواتي لديهن مشكلات أيضاً. وتخبرنا عيتاني عن طفلة بقيت في المؤسسة حتى عمر الـ 18 لأن منزلها غير آمن، وفي هذه الحالة يطالبون بتمديد إقامتها في المؤسسات حتى عمر الـ 21 وبذلك تكون أكثر نضجاً وامتلاكاً لأي مهنة تؤمن مستقبلها، وهذا لصالح الأطفال كي يتمكنوا من بناء حياتهم الخاصة المختلفة عن الوجع الذي شهدوه في طفولتهم.

في المقابل، ترى خبيرة حماية الطفل أن وضع الطفل في المؤسسة يجب أن يقتصر على وجود ضرورة فقط وإذا كان وضعه ملائماً، وفي الحالتين يجب أن يكون موقتاً أي لأقصر فترة ممكنة، مع وجوب رؤية أهله قدر الإمكان لأن الأطفال إذا وضعوا في المؤسسة فأهلهم عاجزون عن حمايتهم أو كانوا هم المعتدين.

نادراً ما تعمل المؤسسات على تأمين صلة الوصل مع الأهل وبناء قدراتهم للاهتمام بأطفالهم، لذلك يجب العمل على بناء قدرات الأسر لاسترداد أطفالها.

تنص المادة 27 من قانون الأحداث اللبناني على:

“للقاضي بعد الاستماع الى الوالدين أو أحدهما، أن يُبقي الحدث قدر المستطاع في بيئته الطبيعية، على أن يعين شخصاً أو مؤسسة اجتماعية للمراقبة وإسداء النصح والمشورة للأهل والأولياء ومساعدتهم في تربيته، وعلى أن يقدم هذا الشخص أو المؤسسة الى القاضي تقريراً دورياً بتطور حالته. وللقاضي، اذا قرر إبقاء الحدث في بيئته، أن يفرض عليه وعلى المسؤولين عنه موجبات محددة، كأن يدخل مدرسة أو مؤسسة أجتماعية او صحية متخصصة وأن يقوم بعمل مهني ما.

للقاضي فرض التدابير المنوه عنها أعلاه في حال خروج الحدث على سلطة أهله وأوليائه واعتياده سوء السلوك الذي يعرّضه للمخاطر السابق ذكرها وذلك بناء على شكوى هؤلاء أو طلب المندوب الاجتماعي”.

على الصعيد النفسي، تؤكد عيتاني أن “لا أحد يستطيع أن يعرف كيف يشعر هؤلاء الأطفال، لذلك الفريق الذي يعمل معهم في المؤسسة، يتفق على الأهداف التي يود أن يصل إليها معهم، وتحصل في مكان ما بعض الاسقاطات لأن الأطفال يحتاجون الى الأمان والحماية ولا يستطيعون المجابهة. وعلاج هذا يكون مكلفاً ومرهقاً ومحبطاً في بعض الأحيان، لكن المؤسسات تحاول دائماً تحقيق المعيار الأساس وهو مصلحة الطفل الفضلى سواء من محيطه أو ذاته أو مدرسته”.

الكثير من المدارس تتقبل وضع الطفل إلى أن يتكيف معه وهذه المرحلة تحتاج الى وقت يختلف من طفل لآخر، وهناك مدارس تتحمل وبعضها لا، وفي كلتا الحالتين، تبقى المؤسسات على تنسيق تام مع المدارس جميعها وتهتم بالأطفال الذين لديهم قدرات أقل وميول مهنية أكثر، وتبقى أهم الخيارات التي يريدون ممارستها داخل المؤسسة من أجل تأمين حياتهم المستقبلية والتنعم بشيء من السعادة والتكيف النفسي فيها.

نصائح للأسر

لا شك أن قدرات الأسر المالية تأثرت أكثر بعد الأزمة، وبعضها لم يعد يستطيع زيارة أطفاله لمشاهدتهم بسبب عدم القدرة على تحمل كلفة المواصلات والرعاية وخاصة الأسر الممتدة بداعي السفر، وهنا تزداد المشكلة تعقيداً لأن الخدمة تحتاج الى تأمين الموارد الكافية لخدمة الأطفال كما يجب.

إن تحقيق بعض النجاحات، يعطي دفعاً للمؤسسات لتكمل خدماتها، وفي دار الأيتام في عكار، ليس هناك أي خدمة فيها سهولة مطلقة، وهم يواجهون الأصعب يومياً، فلا قضاء ولا مجتمع يسعد إذا أوكلت رعاية الطفل الى مؤسسة، لكن هذا خيار صعب لا بد منه. لذلك تناشد المؤسسة الأهل تأمين الحماية داخل منزلهم لأطفالهام وتحمل المسؤولية تجاه هذا الطفل بغض النظر إذا كان هناك قرار أم لا بإنجابه، لأنه أصبح واقعاً وإنساناً موجوداً.

بالقليل من القيم والرعاية والاهتمام والحماية تستطيع الأسر أن تحافظ على الأطفال في كنفها، على أمل أن نصل إلى يوم تتغنى كل الأسر بأنها تستطيع أن تفصل مشكلاتها عن الضرر الواقع على أطفالها ولا يؤثر ما يجري خارج البيت على داخله. فعلاقة الزوجين في حال انتهت أو ان كانت فيها مشكلات غير قابلة للحل، لا يجب أن تكون الرهينة الأطفال، وعلى الأهل أن يتطلعوا الى مصلحة أولادهم. والنية الطيبة يجب أن تكون مراقبة ومدروسة ودائماً فيها أولوية حماية الطفل، وهذا لا علاقة له بالقدرة المالية، بل بمقدار ما تستطيع الأسرة أن تحمي أطفالها وتكون لديها النية والدراية والمعرفة بكيفية الحماية والعلم بوسائلها.

تعمل المؤسسات على تدريب الأطفال على التبليغ والشكوى لكي تساعدهم على حماية ذواتهم، وتناشد كل المؤسسات والمدارس العمل مع الأطفال والأسر على التوعية على موضوع التبليغ، الذي كلما كان مبكراً كانت المشكلة أصغر والقدرة على التصرف وحلها أكبر وكلما كانت النتائج أفضل. وكلما عرفت الأسرة أشياء لها علاقة برعاية أولادها وكانت لديها ثقافة قانونية وتعرف أن هناك قانوناً يسائل الأب والأم، كلما كان هناك احترام لهذه القوانين، ورغبة في حماية الأطفال، فتصبح المشكلات قابلة للحل بصورة أكبر وأقل حدة وعدداً.

شارك المقال