…وفي شوارع بيروت أناس مقهورون

حسين زياد منصور

على امتداد جسر الكولا، تلتقي أسفله الكثير والكثير من الناس يومياً، منهم من اتخذه سقفاً يؤويه ليلاً، ومنهم من جعله مكاناً يعتاش منه. هذه الظواهر التي نصادفها يومياً في مدينة بيروت، من متسولين ومشرّدين وبياعي محارم ورقية وعلكة ومياه وغيرهم كثر، موجودة في جميع دول العالم، لكن ما شهده لبنان في السنوات الماضية زاد من انتشارها، فالانهيار الاقتصادي المتسارع منذ العام ٢٠١٩ مع ما رافقه من أزمات على أنواعها وأبرزها فقدان الليرة اللبنانية قيمتها الشرائية مقابل الدولار وتسجيل أرقام قياسية في سعر الصرف للمرة الأولى في التاريخ اللبناني، كانت العنوان الأساس في الذل الذي يعيشه المواطن اللبناني يومياً إن كان في الأفران أو الصيدليات أو المستشفيات وحتى على محطات الوقود، حيث فاق سعر صفيحة البنزين الحد الأدنى للأجور.

عند أشهر نقطة لالتقاء الباصات في بيروت ولبنان، تجد الرسام، وبائع العلكة وبائع الزهور عدا الباعة المتجولين الذين يحملون قطعاً من الملابس لكسب رزقهم، فضلاً عن أطفال يتسابقون في ما بينهم باحثين في مستوعبات القمامة عن عبوات بلاستيكية وقطع كرتونية لتحصيل مبالغ بسيطة بعد بيعها.

بين كل هؤلاء يلفت انتباهك شاب أسمر معتدل الطول، بشوش الوجه، هندامه مرتب، يحمل بيده وعاء فيه بعض “العدة”، على جانب قارعة الطريق يقف، ومن دون الحاح يعرض عليك غسل زجاج السيارة، وإن رفضت ينسحب تدريجاً. ليس وحده من يقدم هذه الخدمة فهناك غيره أيضاً لكنه الوحيد الذي لفت انتباهي، شاهدت الشاب مرات عدة في أيام مختلفة، لكنني لم أصادفه يومياً هناك.

ويوضح سامر لـ “لبنان الكبير” أنه يأتي بحلول الظهيرة في بعض الأيام تحت جسر الكولا حاملاً “السطل والعدة” كي يمسح زجاج السيارات المارة في سبيل الحصول على بعض الأموال. ويقول: “حاولت القيام بهذا العمل في مناطق أخرى كعين المريسة مثلاً ولكن لم ينجح الأمر فاخترت جسر الكولا كونها أكثر المناطق تجمعاً للسيارات والباصات”.

ويضيف: “لا يمكنني المجيء كل يوم في الصباح الباكر، فأنا أعمل في الأساس حارس أمن في احدى المنشآت، لكن الراتب قليل جداً ولا يكفي، لذلك أنا مضطر للعمل في مجال آخر كي أتمكن من الحصول على أموال إضافية لتأمين لقمة عيشي، حتى لو كنت أعيش وحدي وليست لدي مسؤوليات عائلية، لكن علي تأمين استمراريتي”.

ويؤكد أن “ما أقوم به لا يعود علي بمبلغ مالي كبير، ولكن المبلغ الذي أحصل عليه خلال الوقت الذي أمضيه في هذا العمل يساعدني على شراء بعض الحاجيات، وأفضل من البقاء والجلوس في المنزل”، مشدداً على “أنني لا أخجل من هذا العمل، فأنا أجني الأموال بتعبي وعرق جبيني، والأوضاع الاقتصادية صعبة على معظم اللبنانيين، وليس علي فقط، لذلك أجتهد في العمل كي لا يسيطر علي الاكتئاب”.

على الجهة الأخرى من الجسر لناحية كورنيش المزرعة وبالقرب من احدى الصيدليات، يجلس رجل ستيني، خطّ الشيب شعر رأسه الخفيف، مرتدياً نظارة قديمة، وقميصاً وبنطالاً فضفاضين، يحمل بين يديه عقوداً مزينة بزهور الغاردينيا. يؤكد “العم” أنه العمل الوحيد الذي يتقنه، ويزاوله منذ زمن طويل، وعلى الرغم من الأزمة التي تمر بها البلاد لم يتخلَّ عنه، ولكنه في الماضي كان يؤمن له مدخولاً يستره وعائلته، “أما اليوم فالغلاء أصبح يقتلنا، لدي ثمانية أبناء بينهم ولدان أحدهما توفي، لذلك اعالة العائلة هي مهمتي الأساسية”.

ويقول: “أستفيد في بعض الأحيان من وزارة الشؤون الاجتماعية لما تقدمه من مساعدة كوني أمتلك بطاقة استناداً الى حالتي. بالطبع لا يكفيني ما أجنيه، وبالكاد يؤمن لي ثمن الدواء الذي أحتاجه، أخرج باكراً للعمل، وأعود الى المنزل قبل غروب الشمس، عيني اليسرى لا أرى فيها، فأنا فعلياً بعين واحدة وأضع نظارات. هناك أشخاص عدة يقدمون لي المساعدة منذ زمن، أحدهم توفي قبل فترة، وكان له فضل كبير علي”.

تواصل الأزمة الاقتصادية تضييق الخناق على المواطنين، فبيروت التي تغنى بها جميع العرب والأجانب لم تشهد حتى خلال الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي أياماً سوداً كالتي نعيشها، والشعب يبكي دماً بسبب الظلم والقهر في حين يعيش المسؤولون على كوكب آخر بعيد عن معاناة الناس.

شارك المقال