الهريسة… “بالحلوة والمُرّة”

جنى غلاييني

لطالما عرفت الهريسة بأنها طبخة شائعة تحضّر في العديد من القرى اللبنانية، حيث يتم طهوها عادة في المناسبات الدينية في قدر أو “دست” كبير يكفي لإطعام الكثير من الناس خاصةً أنّها أكلة محببة لدى معظمهم. كما أنّ الهريسة تشبه إلى حد بعيد طبقاً شائعاً بين بعض الدول العربية والخليج العربي يُعرف باسم الهريس، وهو مصنوع من اللحم والقمح المطحون الناعم. وكلمة هريسة تطلق أيضاً على نوع من الحلوى مع القشدة، ولكن مكوناتها تختلف كلياً عن هريسة القمح التي تؤكل كوجبة طعام. 

هريسة عاشوراء

تكثر الرّوايات عن أصل الهريسة، فعند المسلمين الشيعة، يرجع تاريخها إلى العام 61 للهجرة، الذي استشهد فيه الامام الحسين بن علي بن أبي طالب وآل بيته وأصحابه وأخذ عياله بمن فيهم الأطفال سبايا إلى بلاد الشام، وهناك أنهكهم الجوع بعد أن أعياهم التعب لطول الطريق فكانت السيدة زينب شقيقة الامام الحسين تجمع الحبوب الموجودة في الخربة التي احتجز فيها السبايا وتصنع منها على الرغم من قلتها، طعاماً تسد به رمق الجوع الذي أنهك الأطفال. فصار المسلمون الشيعة يحضّرون الهريسة في عاشوراء في ذكرى استشهاد الامام الحسين.

وتقول أم عباس من النبطية لـ “لبنان الكبير”: “إنّ صنع الهريسة في هذه الذكرى المباركة فيه بركة وأجر لا مثيل له، فهي بحاجة إلى جهد وصبر وقوة، بحيث يأخذ طهوها في طنجرة كبيرة حوالي 12 ساعة متواصلة، وتحتاج إلى أيادي مجموعة كبيرة من الأفراد الذين يتناوبون على تحريكها، وعند الانتهاء منها توزع على أهالي البلدة. وبالطبع الهريسة في ظل غلاء المواد الغذائية أصبحت مكلفة، إذ يحتاج شراء أغراضها من اللحم والقمح المقشور والبهارات مبلغاً مالياً ضخماً”.

تحضير الهريسة في عاشوراء

هريسة الأرمن

عند الأرمن، الهريسة طبق متوارث منذ 16 قرناً، وهي عبارة عن عصيدة سميكة مصنوعة من القمح المجفف أو المحمص المتشقق واللحوم الغنية بالدهون، ويتم استبدال الأعشاب باللحوم في الهريسة في الأيام الدينية الأرمنية التي تتطلب الصيام والتكفير عن الذنب. وتعتبر طبخة الهريسة حسب التقاليد الأرمنية، منتشرة منذ العصور القديمة، وتختلف القصص عن أصلها، ووفقاً للتقاليد الأرمنية، كان القديس الراعي لأرمينيا غريغوري المنور، يقدم وجبة حب وإحسان للفقراء، لكن لم يكن هناك ما يكفي من الأغنام لاطعام الحشود لذلك أضيف القمح إلى أواني الطهو، فلوحظ أنه كان يلتصق بقاع القدور، حينها نصح القديس غريغوري قائلاً: “حاريخ!” بمعنى “حركها!” وهكذا جاء اسم الطبق الهريسة من كلام القديس نفسه.

قدمت الهريسة كوجبة خيرية منذ ذلك الحين، ويتم تقديم الطبق بصورة تقليدية في يوم عيد الفصح، ولا يزال يحضّره العديد من الأرمن في جميع أنحاء العالم، ويعتبر أيضاً الطبق الوطني لأرمينيا.

توزيع الهريسة عند الأرمن

هريسة عيد السيدة

وعند المسيحيين، تحضّر حلل الهريسة على مواقد الحطب في المناسبات السعيدة وغير السعيدة ولاسيما في عيد السيدة العذراء، ويقترن تحضيرها وتوزيعها منذ القدم بالذبائح المقدمة إلى الكنيسة، وتعد كوجبة جماعية للمدعوين والمشاركين في الاحتفالات الدينية والشعبية، وأحياناً يعمد المحتفلون في القرى بالأعياد والأعراس إلى إرسال حصص من هذه الأكلة إلى الأقارب أو الأصدقاء الذين لم تتيسر لهم المشاركة في الاحتفال.

توزيع الهريسة في زغرتا بمناسبة عيد السيدة

وإلى جانب المسيحيين، يستخدم الآشوريون الهريسة كطبق في عيدي الميلاد والفصح، ويحضّرها البعض في بعض القرى اللبنانية في مناسبات الزواج لتوزيعها على العائلات الأكثر فقراً.

إذاً أكلة الهريسة في لبنان تُحضّر في الأفراح والأتراح لتصبح رمزاً للفرح وللحزن معاً.

شارك المقال