“ألوهيّة الذات” عند الزعيم… قراءة في علم النفس

د. سيلفا بلوط

تتبدّى العلاقة بين النرجسيّة المرضية التي تصل إلى حدّ تأليه الذات والنفوذ السياسيّ وثيقة، وخصوصاً عندما يحيط من هو في السلطة نفسه بهالة “دينيّة” أو “قدسيّة”، ويجيز لنفسه تقرير مصير دولة أو فئة أو طائفة… وكأن هناك أوالية إنكار لوجود الدولة أو الجمهورية… ومن الملاحظ أن ألوهة الذات تذهب في أحيان كثيرة إلى الوجهة الأكثر مرضية لتصل إلى حدّ التقمّص مع الإله، بمعنى أن من يمارس السلطة يتصرّف فعلاً على أنه ظلّ الله على الأرض أو مرسَل من قبله لحلّ مشكلات الكون بأسره، وليس مشكلات جماعته وحسب. وفي هذه الحال، ما يحصل أن هذا “الإيمان” بالذات يؤمّن توكيداً نرجسيّاً، يعزّز بدوره شعوراً بالعظمة يمدّ صاحبه بالأمان الذي ربّما كان يفتقده نتيجة امتلاكه لذات هشّة نجمت عن اضطراب اختبره في طفولته أو عن شعور كدِر بالإضطهاد. ولسنا هنا في صدد مقاربة تحليلية لهذا الشعور إلا أن عرض هذه المسألة، ولو بإيجاز سريع، يسهم في فهم أعمق للعلاقة بين النرجسيّة المرضية عند الزعيم السياسي وتأليهه لذاته.

وإذا ما تناولنا مسألة علاقة السلطة السياسيّة بتأليه الذات، من زاوية سيكولوجيّة، فإننا نلاحظ أن السلطة تؤمّن نوعاً من الإشباع الذاتي النرجسيّ، ويحصل ذلك من خلال استغلال الزعيم لجمهوره الموالي عاطفياً أو إقتصادياً وإيديولوجيّاً والسيطرة عليه من ثمّ، بهدف التعويض عن شعور مكبوت بالخجل، أو سوء تقدير الذات أو الدونية أو الإضطهاد الذي يعمد إلى إسقاطه عليه. باختصار تؤمن السلطة لمن يعاني عقدة النقص مصدر إشباع وتوكيد نرجسيّين من خلال الحصول على الشعور باللذة الناجم عن تحقير الآخرين واستغلالهم.

ويعمد السياسيّ النرجسي إلى استغلال مواليه وإيهامهم بأنه “المخلّص” و”المنقذ”، و”صانع التاريخ” و”حامي الكرامة”… بغية القبض، أكثر فأكثر، على السلطة فيتعزّز بذلك رابط إنصهاريّ أو تماهٍ لا يتمّ التحرّر منه بينه وبين هؤلاء، ولا يخفى أن التماهي مع الزعيم يضفي على الجمهور شعوراً بمكانته التاريخيّة وعظمته. وقد يصل الأمر إلى أن فقدان الزعيم أو خسارته على سبيل المثال تخلق لدى هؤلاء شعوراً بالسحق، وبأنهم “عدم” من دونه، وكأنهم يستمدّون قوتهم ووجودهم حتى من بقاء زعيمهم “سليماً” و”معافى”.

ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن ما يستخدمه الزعيم النرجسيّ للقبض على جمهوره ولحثّه على تأليهه يحاكي ما يستخدمه النرجسيّ تجاه ضحيته. وإذا ما تناولنا الظهور الاعلامي للزعيم النرجسي على شاشات التلفزة، فمن الملاحظ أن الشاشة تقدّم له ما تقدّمه المرآة لنرسيس Narciss، أي الإعجاب المفرط بالذات والتقدير الزائد لشخصيته وقدراته، وقد يصلان إلى حدّ “تأليهها”، وكأن هناك شعوراً بنشوة أو لنقُل بعظمة ناجمة عن إعجابه بنفسه، وهذا ما يعزّز توكيده النرجسيّ. لذلك نراه يستغلّ الأحداث ليكثر من طلّاته على شاشات التلفزة، أو قد يتمّ ذلك بصورة دورية. ومن الملاحظ أيضاً أن “عملقة” الذات لا تظهر عبر شاشات التلفزة وحسب، وإنما في ألواح الاعلانات الضخمة والمضاءة المتواجدة بكثافة في مناطق نفوذه تحديداً.

كما يأتي استخدامه المفارقات في خطابه في سبيل شلّ التفكير العقلاني لدى جمهوره “المسحور” أو “المفتون” به وتشتيت الإنتباه عند من يتأثر به، فيصبح عاجزاً عن التحليل الموضوعيّ والمنطقيّ، وكأن هناك عملية مقصودة لتشتيت الجمهور وإبعاده عن النقد. وتلازم هذه المفارقات جمل أو عبارات صغيرة، تحمل مفردات قدسيّة أو إلهية (أنا الدولة، أنا المنقذ، أنا المرسَل من الله…) فتكشف عن وجود سمات سيكولوجيّة مرضية تعدّ بمثابة “صدى” لطبيعته النفسيّة العظاميّة. ولا يخفى ما للابتسامة التي يرسمها على وجهه، وتكون عادة ابتسامة “مغرية” وفي الوقت نفسه “جامدة”، من تكريس لتأثيره أكثر ودعم “الكاريزما” لديه.

أما بالنسبة إلى تكريس نفسه كصورة إلهيّة عند جمهوره، فيستخدم الزعيم ما يسمّى بالأسلوب “الطقسيّ” والأسلوب “المقدّس”. بالنسبة إلى الأسلوب الطقسيّ، يتمّ من خلال “فرض” ممارسة حركات جسديّة جماعية موحدة كالتي تقام مثلاً في الصلاة الجماعية أو في ممارسة طقس ديني معيّن… ولا يخفى عن أحد أن توحيد الحركات يؤثّر إلى حدّ كبير في الحشد أو الجمهور لأنه يمدّه بالشعور بالأمان والثقة والقوة. وفي هذه الحال، نستذكر الفاشية التي تفرض اللون الموحّد ليس في الزيّ وحسب، وإنما على مستوى التفكير. وفي ما يتعلّق بالأسلوب المقدّس، فهو يتمحور حول تجذّر فكرة أساسيّة تمثّل نواة إيديولوجيا معينة يتمّ إعطاؤها طابعاً قدسيّاً لتسهم بعدها في “تدجين” الجمهور… ويتجلّى الدافع الأبرز وراء هذه الممارسات في خلق بيئة “حاضنة” لديها استعداد للتضحية بنفسها فداءً للزعيم الذي يلقي بها في بؤرة من أوهام الإنتصارات والبطولات والإنجازات… ليستمدّ طاقته من عملية استلابها، كما ذكر سابقاً.

ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الزعيم النرجسيّ يتلاعب بعقول جمهوره أو مواليه وبانفعالاتهم على حدّ سواء، ويستمدّ طاقته منهم ليحمي نفسه ونفوذه.

ومن جانب آخر، يتبدّى التفلّت أو التنصّل من المساءلة أو المحاسبة دافعاً أساسيّاً يقف وراء تأليه الذات، باعتبار أن استخدام تقنيات التلاعب التي يتقنها الزعيم النرجسيّ وأساليب المناورة يكون غالباً باسم “الشرف الضائع”. كما لو كانت هناك مهمة ملقاة على عاتقه وتتمثّل في استرجاع الشرف الضائع أو المنتهَك للدولة!… هذا عدا عن إيهام جمهوره بأنه معرّض للحصار والإضطهاد، ليغذّي لديه شعوراً بالعظمة يسمح له باستغلاله فيما بعد لمصالحه الخاصة.

يبرع الزعيم النرجسيّ في “الإفتاء”، فهو يفتي “تابوات” أو “تحريمات”. بمعنى آخر، يرسم خطوطاً حمراً ويحثّ مواليه، بالترغيب أو الترهيب، ليس على عدم تخطّيها وحسب، وإنما يوكل إليهم الإقتصاص ممن يتجاوزها وخصوصاً عند من يختلف عنهم ومعهم. ونذكر من هذه التابوات، على سبيل المثال، تخوين من يعارض إيديولوجيّته أو ينتقد ممارساته السياسيّة…

خلاصة القول، تعدّ مسألة تأليه الذات خطيرة باعتبارها لا تقف عند حدود الزعيم وحده، وإنما أيضاً تطال جمهوره من خلال التحكّم به واستغلاله وتحويله إلى وقود يحرق بها الآخر المختلف أو المناهض لسياسته. وقد تتخطّى ذلك لتصبح أكثر خطورة، وخصوصاً عندما يملك القدرة على التحكّم بمصير دولة بأسرها والنَيل من مؤسساتها.


سيلفا بلوط
دكتورة في علم النفس

شارك المقال