بيتهوفن يشع من مونو

رامي عيتاني

الأربعاء والخميس الماضيان إطلالة مميّزة بأمسيتين غير عاديّتين، وهما على مقربة من مكان تتصاعد منه رائحة دخان الإجرام ولهيب نار الاهراءات، وتجسّدت فيه معالم الصراع بين ثقافتي الحياة المطمئنّة والموت الزعاف؛ حيث كنا على موعد مع سهرتين ساحرتين ومميزتين لفنّان لبنانيّ مبدع يؤمن بالمسرح وخشبته وروحه المشعّة هو بديع أبو شقرا، بدعوة من الصديق المحامي والكاتب ألكسندر نجار على مسرح مونو الأشرفية.

أطلّ الممثل بديع أبو شقرا بإلقاء لافت وشعر مسترسل يحاكي صوتاً يهمس حيناً، ويصوّت أحياناً، متعاقداً مع احترافيّة فيها الحنين والحبّ والحرّيّة والجرأة والالتزام، يروي حياة شخصيّة الفنّان العالميّ بيتهوفن بنصوص عميقة حميميّة تسحر بعمق ثقافتها وشفافيّتها وتطول إلى زمن من الحضارة المفتوحة على اللحن والموسيقى والشعر والأدب والمسرح، تعكس تحوّلات تاريخيّة واجتماعيّة وتراثيّة لعلاقة الإنسان بالروح والطبيعة التي تختفي وراء الكلام ومعانيه، لتمتزج بصوت بصريّ لافت يستحضر صورة عصر ذهبيّ يبتعد عن عنف الحاضر، ويطلق صلوات مشتركة على نيّة وقف هذه الوحشيّة التي تسود مجتمعاتنا، وتهدّد مستقبلنا، وتتربّص بعالمنا منذ زمن بعيد.

الغاية من العمل كانت واضحة المعالم من دون إيحاء أو مواربة، عنوان واضح للمسرحية مبنيّ على مشهديّة، تكشف عنها الوجه الآخر لفنّان عالميّ لم نعرف عنه سوى الشهرة والعظمة؛ استقينا من هذه المسرحية اعترافات كثيرة تشي بسلبيّات هذه الشخصية الغريبة العجيبة؛ بعد أن أطلعتنا عليها المسرحية المأخوذة عن كتاب بالعنوان نفسه لشاعر الفرنسيّة المميّز المحامي ألكسندر نجار، وقد أعاد صياغته بالعربيّة الشاعر هنري زغيب الذي حافظ على أسلوبه وعلى إخلاصه للكلمة. أمّا المسرح الذي غدا غرفة موسيقيّة فنّيّة إضافيّة فقد كان نجمه الفنان بديع أبو شقرا الذي جعل المسرح ومن فيه روحاً منسابة بين مقاعد ثلاثة في وسط المسرح وعلى جانبي الخشبة، يرافقه عازف البيانو الفرنسيّ الساحر نيكولا شيفرو الذي من خلال عزفه، تمكّن من مسرحَة الصوت الذي أعاد كتابة حروف الكتاب، وقد أخرجها أنيقة دقيقة بليغة متماسكة شديدة الوضوح لها ملامحها الخاصّة الجميلة العميقة. تحرّكت أنامله في الاتجاهات الممكنة والمستحيلة في انتقالات سلسة يتحرّك معها كلّ شيء بمقطوعات رائعة عبرّت بدقة عن مدلول حسيّ لمقاطع المسرحيّة معبّرة بنظرات أبو شقرا بيتهوفن الشاخصة الحارقة تجاه شريكه البيانيست بعد أن تتقطع أنفاسه تذمّراً من مرحلة تسبق محطة ألعن من حياته .

استطاع الكاتب والممثل معاً بقدراتهما الفنية الرائعة أن ينقلا فلسفة بيتهوفن الحياتية واللحظات القويّة فيها من خلال الموسيقى التي فتحت عوالم من عصور مختلفة؛ دونما حاجة، أحياناً، إلى وجود نصّ منظوم مكتوب.

الفنّان العالميّ بيتهوفن في نصّ نجار يروي مراحل عديدة عن ولادته ونشأته وممارساته وطباعه السيّئة وكذبه وعنفه وغضبه وانعزاليته وفشله العاطفيّ وعدم انسجامه مع أحد إلّا مع ذاته، كان شخصيّة أنانيّة بخيلة لا تصادق ولا تسامح وتكره كثيراً وتحبّ قليلاً مع مواقف وآراء واعترافات كثيرة جدّاً ضمن العرض حتّى كادت تنفّر، منه، المشاهد أو القارئ؛ لولا تعريجة الكاتب الناجحة واستدارته نحو تحريك شعور الشفقة تجاه شخصيّة عانت الأمرين في حياتها بسبب مرضين عاناهما: الأوّل عائلته، والثاني صممه، فكان أشبه بمعجن من إحترار وصل إلى حد الإنفجار.

الهروب أضاف عزلة كبيرة إلى صمته؛ لكنّه أدرك، بعد ذلك، أنّه على الرغم من أنّ أذنيه كانتا صامتتين، لكنّ هذا الشغف بداخله لم يكن كذلك؛ حيث يحضر الإيقاع والفرح بكامل جسديهما وذاكرتيهما؛ فاستمرّ بتأليف الموسيقى بأنفاس وأنامل متناغمة بقدر ما بقي له من سمع في أذنيه وأحياناً من ارتجاج الحيطان أو هدير أرض منزله أو حتى أصوات مخيّلته.

كانت الموسيقى تُعطي له جرعات تلقائيّة ذات ماهيّة خاصّة مع دواء الصم، لكنّه كان شغوفاً بها منذ فترة طويلة على عكس ابن شقيقه الذي كاد ينتحر بسبب شغف عمّه بها، تماماً كما لم يستسلم لأيّ شخص عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى التي تترك انطباعات رائعة عن فنّان صاحب ذاكرة راقية وذائقة فنّيّة رائعة وجمهوريّة موسيقيّة لا مثيل لها؛ فلم يستسلم أيضاً لهذا الصمت القاتل.

وعلى الرغم من أنّ بيتهوفن الفنّان لم يستطع أبداً إظهار مشاعره للعامّة ولمن حوله نتيجة تجاربه القاسية، إلّا أنّه، غالباً ما كانت مشاعره تنكشف في مؤلّفاته بمقطوعات، تحرّك المشاعر بسبب الألم الذي تحمّله .

كتب بيتهوفن الذي تماهت موسيقاه مع حبّ النساء، رسائل إلى المرأة التي أحبّها لسنوات، لكنّه لم يستعمل اسمه في أيّ مكان، وقد كان عاجزاً عن السَماع، مُبعَداً خارجَ العالَم، منفيّاً داخلَ ذاته، حياته المليئة بالمواجع، والتعقيد، والعذاب، تفجّرت في تلك الأمسيتين اعترافات حميمة كشفت علاقته مع والده، ومعاناته مع النساء، وأخطاءه السياسيّة وغيرها من الاعترافات، استعدنا معها إيمان بيتهوفن وشغفه وصلابته في مواجهة المصاعب التي واجهها بسخرية، وقناعاته وصبره على المرض الذي أصاب أكثر حاسّة هو بحاجة إليها، وكأنّها نقمة إلهيّة لوالديه أو نعمة له، ليصبح في مصاف قدّيسي الفن.

والحقيقة أنّه ووفقاً لما رشح عن الكاتب ألكسندر نجار فإنّ الفكرة ولدت قبل ثلاث سنوات، بعدما كان الممثّل الفرنسي جان فرنسوا بالمير، قدّمها في “أمسيات باريس” في سياق مناسبة “مهرجان البستان” في بيت مري، لاحقاً؛ حيث جرى “تصديرها” إلى فرنسا، وعرضت في مدينة بربينيان، ثمّ في باريس. ومن المقرّر أن تُستأنف العروض في العاصمة الفرنسية اعتباراً من التاسع عشر من شهر أيلول المقبل أي بعد تقديم النسخة العربيّة لـ”اعترافات بيتهوفن” في بيروت.

أمّا بالنسبة إلى النصّ المعرّب، فقد كان الشاعر هنري زغيب أميناً على روح النصّ الأصليّ بالفرنسية، وأدخل إليه نجار، نَفَسَ اللغة العربية بإحساس وشاعريّة ساحرتين بلغة لها رونقها الخاصّ، مع حرصه على أن “يُلبس” النصّ الجديد رونقاً آخر باللّغة التى عرّبه بها. أمّا على صعيد الشكل، فيؤكد نجار أنّ الموسيقى في القراءة المسرحيّة، تحمل عنصراً سرديّاً. وعليه، يأتي الخيار الموسيقيّ متناسباً مع كلّ فصل من فصول العمل؛ بحيث تتفاعل مع اعترافات الراوي، وتكمل المشاعر التي تختلج في نفسه.

لم تكن “اعترافات بيتهوفن” في سياقها الزمنيّ والمكانيّ لتغرد خارج سرب ما يعيشه الجمهور في بيروت، خصوصاً في ظلّ الكوارث الماليّة والاقتصاديّة والمعيشيّة وتداعياتها الاجتماعيّة والنفسيّة؛ حيث يسجّل لإدارة المسرحيّة مراعاتها الكاملة هذه الظروف بسعر بطاقات الدخول الرمزيّة جدّاً، إلّا أنّ ذلك لا يغني من حاجة المجتمعات إلى الثقافة، للاستمرار والمحافظة على هويّتها. وفي هذا الصدد يقول نجار نقلًا عن الأديب الفرنسي جان جيونو: “إنّ دور الشاعر، هو أن يكون أستاذ رجاء”. إذ لا بد من البقاء والاستمرار رغم الصعوبات “لنبعث الأمل”… “هذا لا يعني أنّنا ننظر إلى الأمور بسذاجة أو رضًى، على العكس؛ يجب على الكاتب أن ينخرط في مجتمعه، وأن يعي المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، ليحمل هذا المجتمع على الانتفاضة على واقعه المرير، من خلال مدّه برؤية تغييريّة، وقد تجاوز ذلك، لينزلق إلى النقد الاجتماعيّ باعتبار الشخصيّة نفسها بمثابة شخصيّة قناع، يتستّر خلفها المؤلّف نفسه محمّلًا مونولوج الشخصيّة ما يريد أن يقوله على أيّ إسقاط سياسيّ”.

لكن يبقى أجمل ما استقيناه من هذا النوع من المسرح هو أنّنا نرى انسجاماً وتماهياً بين كلّ من فنّي التمثيل والعزف في الهدف والنقد مع اختلافهما في الهدف، المونولوج المسرحيّ الدراميّ ذهب به نجار، أحياناً، إلى منطقه للنقد الذاتيّ أو الاجتماعيّ أو السياسيّ للمرحلة، وبذلك اقترب نجار من هدف النقد في المونولوج الغنائيّ ألا وهو التقنّع والتخفّي خلف شخصيّة بيتهوفن للإسقاط على مرحلة وواقع مريرين نعيشهما جميعاً في هذا الوطن وفقاً لأسوأ مرحلة عاشها بيتهوفن .

الحقيقة يعدّ هذا العمل على قدر كبير من النخبويّة، وذا قيمة مضافة وموجهاً نحو جمهور مصنّف من خاصّة المجتمع؛ باعتبار أنّ من لا يتقنه برقيّه وأناقته وبساطته لا بد من أن يقع في الملل أو حتى يغفو بوجه الممثل الوحيد الذي يختصر كلّ الأدوار.

ولأنّ جمهور هذا المسرح – مونو – جاهز دائماً لاستيعاب هذه الرسالة النموذجيّة تلتقي الأمور الإيجابيّة معاً، لتعلن أنّ المسرح متاح لكلّ الثقافات والألوان والنزعات، والشرط الوحيد أن يعتليه القادرون والمميّزون والحريصون على الرسالة الأمثل للخشبات في كلّ الأوقات.

أمسيتان رائعتان بكلّ ما للكلمة من معنى، شكلاً ومضموناً، معنًى ومبنًى، فكانت السيرة غير الحسنة لبيتهوفن متوازنة مع المقاطع النغميّة التي عزفها له شفرو، وبالتالي خرجنا بجعبة ممتلئة بدسم معلوماتيّ، يُفضي إلى عالم حقيقيّ عن مبدع من هذا الطراز النادر والنموذج الفنّيّ الباهر لنسأل ويسأل الجمهور: من صنع بيتهوفن، الموسيقى أم الأحزان؟

شارك المقال